علي يشار ساريباي - الجزيرة ترك - ترجمة وتحرير ترك برس

إذا ما نظرنا إلى وضع حزب الشعب الجمهوري اليوم وإلى مستقبله يمكننا تحليله على مستويين. المستوى الأول هو المستوى الوجودي السياسي، وفي هذا المستوى يتوجب التمعن في الهوية التي يُعَرّف الحزب نفسه بها، والمستوى الثاني الذي يجب تحليله هو الأيديولوجيا. تفسّر الوجودية السياسية لحزب الشعب الجمهوري الحزب بأنه تَكوّن نتيجة لمراحل نشأة (الدولة – الشعب) في تركيا وبأنّه الموَجّه لهذه الحركة، وهذا الاتجاه هو اتجاه الكمالية (أتباع آتاتورك) في الأيديولوجيا السياسية للشعب والدولة، وكانت الكمالية مشروع تغيير حضارة ومحاولة لخلق مجتمع حديث متطوّر علماني صاحب سلطة.

إذا ما نظرنا إلى حاضر وماضي الحزب يمكننا فهم التناقضات التي وقع فيها في المستويان الوجودي والأيديولوجي. فقد كان استناد الحزب على عقلية الوجودية السياسية سبباً في إعطاء انطباع أن تركيا لا تزال في مرحلة نشأة السياسة والمجتمع والدولة في فترة العولمة. هذا الانطباع يجبر حزب الشعب الجمهوري على إحياء الجذور التاريخية للدولة والشعب، وهذا ما يجعله مستبداً في عقليته السياسية. وهذا ما حصل في فترة الانتقال إلى الديمقراطية فقد أصبح الحزب يرى الأحزاب السياسية المنافسة له عناصر مخربة للدولة وللمجتمع. فهُم بالنسبة له ليسوا منافسين بل أعداء سياسيين وعلى هذا النحو بنى أرضية ثقافة سياسية. وخصوصاً لأنه يملك عنصراً سياسياً يسهل عليه ذلك وهو الكمالية فقد اعتبر أهداف "الأعداء السياسيين" الرجوعَ عن الكمالية وقلبَ فترة التطور نحو العلمانية رأساً على عقب.

عاش الحزب مفارقات أيديولوجية كبيرة، فهو ينحدر من الحزب الديمقراطي الذي يوصف مؤسسوه بأنّهم أعداء أتاتورك، وهم من عَرّفوا السماح بقراءة الأذان باللغة العربية من جديد بأنه "خطر الشريعة"، وبنفس الوقت تم تطبيق "قانون حماية أتاتورك" الذي لم يقبلوه من قبلهم. وباختصار لعب الحزب في تشكّله السياسي دوراً سياسياً أساسياً في نقص الديمقراطية. وحاله اليوم ليس مختلفاً كثيراً، ولكن بالطبع كان لدخول تركيا في مرحلة العولمة تأثيرٌ كبيرٌ على حزب الشعب الجمهوري، والأكثر من ذلك أن دخولها هذا الذي كان نتيجة مهارة سياسة حزب العدالة والتنمية ذو المظهر "المتطرّف"، ممّا ولّد نزعة "الانتقام السياسي" لدى الحزب الذي كان يسمّى سابقا بالحزب الديمقراطي.

يظل حزب الشعب الجمهوري متأرجحاً بين طرفين متناقضين، الأول هو التقرب من الشعب ومنح الجماعات الدينية مشروعيتها، والثاني هو صمّ الآذان عن متطلبات الشعب والظهور بمظهرٍ معادٍ للدين.

الغل الذي شعر به حزب الشعب الجمهوري هزّ أرضيته السياسية وأوقعه في تناقض وتنافر، وأشعل صراعاً بين ما عاشه في الماضي وبين تطلعاته في التطور الذي يحتّمه العصر، ففي انتخابات 12 حزيران/ يونيو 2011 حاول الحزب أن يبدو بمظهر "المتجدد" ولكنه لم يكن مُقنِعاً أبداً، وظلّ يتبع نفس أسلوبه المعهود في معالجة القضايا الهامة أي أنه أعاد صياغة أفكاره القديمة بكلمات جديدة.

لم يأخذ حزب الشعب الجمهوري الدور الذي من المفترض أن يأخذه حزب سياسي في البرلمان في القضايا الاقتصادية للبلاد، على الرغم من حيازته على المكانة الطبقية والنخبوية واستيفائه شروط مواكبة الحياة المعاصرة. وكانت جملته الشهيرة أمام نجاحات حزب العدالة والتنمية "لو كنت أنا الحزب الحاكم لفعلت أفضل من هذا".

بالنسبة لقضية الأكراد التي تعد قضية هامة لدول عديدة، لم يتمكن أحد من فهم رأي حزب الشعب الجمهوري بشكل واضح ملموس بل بقي سراً عصي الفهم، وعندما أفشي هذا السر وقع الحزب في أزمة التناقض مع نفسه، فقد حاول أن يُفحِم حزب العدالة والتنمية بتقديم حل أكثر تطرفاً حين تكلم عن "الحكم الذاتي"، إلا أنه سرعان ما كذب نفسه في اليوم التالي مدعياً أن هناك فهماً خاطئاً له.

أما تصرفاته الانتهازية في مختلف المحافظات والمناطق فقد جعلت صورته غير متجانسة في أذهان الناس، وبالنتيجة تخَبَّطَ الحزبُ الذي لا يفتأ يعرف نفسه كحزب يساري على الأرضية التي يستمد منها وجوده الأساسي. وحاول أن يروج لنفسه في صفوف الشعب ويتكلم بلغته، وعمل على التواصل مع الجمهور مستخدماً مصطلحات يسارية، وبدلاً من أن يقترب من الشعب ازداد ابتعاداً.

يمكننا أن نضرب مثالاً على ذلك قضية العلمانية: فعند اقتراب موعد الانتخابات يُطرَح موضوع العلمانية على الطاولة ولهذا سببان: الأول التراث الذي ورثه من ماضيه والذي ينعكس في تبنيه لفكرة التسلط السياسي وطبيعته التي تعمل على تنظيم وموازنة الأمور، والسبب الثاني هو عدم قبول الهزيمة أمام منافسه على حلبة السلطة السياسية واعتباره الأطراف الأخرى إما عدوة أو صديقة. و بأخذ هذين السببين بعين الاعتبار تصبح العلمانية قضية محورية في صراع البقاء بين مختلف الأطياف السياسية. وهنا بيت القصيد: دخول المتدينين وحزبهم على الساحة السياسية أو بمعنى آخر وصول الشريحة المتدينة إلى الحكم خلق رغبة عند هؤلاء بالعودة إلى العهد الماضي. وكلمة علمانية تعني أنّ الأمر يعود إلى الشعب، والشعب التركي شعب متديّن بغالبيته فلا مفر من إرضائه، وهنا يتضح التناقض الذي وقع فيه الحزب بين قطبين مختلفين، بين مشروعية حقوق الفئات الدينية والإنصات لها من جهة، ومن جهة أُخرى رفض الدين وردّه. ونرى في محاولة الحزب حل قضية الحجاب في زمن "دنيز بايكال" مثالاً واضحاً على ذلك.

ومن الجدير بالذكر هنا ذكر النجاحات التي سجلها حزب العدالة والتنمية واحداً تلو الآخر في مجال الاقتصاد عندما فتح أسواق الأناضول ورؤوس أموالها على العالم، ويعود نجاحُه إلى الآليات الاجتماعية والاقتصادية التي أدخلها، حيث أتاح لشريحة المحرومين والمبعدين من المجتمع الدخول إليها والحصول على دور فعال فيها. أما حزب الشعب الجمهوري فلم يقدم أي مشروع اقتصادي وانشغل عن ذلك بمشاكله الداخلية.

نجاح الحزب مرتبط بقدرته على تعزيز الربط بين أيديولوجيته (عقليته) وبين أرضيته الوجودية التي تسقي كيانه وهو أمر مشكوك بتحقيقه بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري. يُطالِب الجناح القومي في الحزب بإحياء أرضيتهم القومية التي يعتبرونها مصدراً لوجود الحزب وشعارهم "حزب الشعب الجمهوري من جديد ولكنّه ليس جديداً"، فهم يعتمدون العقلية القطعية الصارمة. وهؤلاء لن يكون لهم دور في تركيا التي يتزايد فيها يوماً بعد يوم طلب الديمقراطية والحداثة.

أما المجموعة الأخرى التي تدعم "كمال كلتشدار أوغلو" وتقف في وجه القوميين، فهي تتظاهر وتعترض وكأنّها تقول شيئاً آخر، إلا أنها تردد نفس الأشياء ولا تتعدى في حقيقة الأمر إلا خلافات شخصية وصراعات منحصرة في الحزب نفسه. ففي اللحظة التي يلعب فيها الحزب دوراً فعالاً لن تستطيع أرضية الحزب أن تتخلص من آثار الانقسام الظاهر على السطح.

عن الكاتب

علي يشار ساريباي

عالم سياسة واجتماع تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس