محمود عثمان - خاص ترك برس

قال رئيس اللوبي الإيراني في واشنطن تريتا بارسي: "إن المفاوضات بين الغرب وإيران كانت منذ البداية جيو سياسية تحت شعار الملف النووي".  مضيفا أن "ما يجري هو ولادة شرق أوسط جديد".

بعد الخلل في ميزان القوى والفراغ الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط الذي أحدثته إزاحة نظام صدام حسين عن الحكم، وإطلاق يد إيران في العراق، بل تقديم العراق على طبق من ذهب لإيران وإدارتها الثيوقراطية، وانسحاب الأمريكان - مع وصول أوباما إلى الرئاسة - من إدارة المنطقة بشكل مباشر إلى إدارتها من خلال القوى الإقليمية حيث تبرز ثلاث قوى إقليمية رئيسية هي تركيا وإيران وإسرائيل - ليس بينها دولة عربية واحدة!- والدراسات والتحليلات والسيناريوهات تنتج تكتب وتؤلف وتنشر حول مصير ومستقبل المنطقة.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن القوة الإقليمية لا تعتمد على القوة العسكرية والاقتصادية فحسب. فهناك المملكة العربية السعودية ومصر تمتلكان هذين العنصرين، لكنهما تفتقدان الشرط الأساسي الثالث وهو امتلاك الرؤية والاستراتيجية والمشروع. إذ الانكفاء والتقوقع على الذات، أو السير في فلك الدول الأخرى يسلب الدولة -مهما كبرت- خاصية القوة الإقليمية. هذه النقطة تحديدا هي التي شكلت الصدمة – الصفعة - الكبرى التي تلقتها الدول العربية عندما أفاقت على وقع شهر العسل الأمريكي الإيراني، واكتشفت أن أمريكا استبدلتها بإيران حليفا، وأنها – أي البلاد العربية – قد جردت من أسلحتها الاسترتيجية بعد أن خرج البترول من كونه سلاحا استراتيجيا حاسما. حتى باكستان التي كانت تعتبر أقوى وأكبر حليف وشريك استراتيجي للملكة العربية السعودية فشلت حكومتها في انتزاع قرار من البرلمان الباكستاني يتيح لقواتها المشاركة في عاصفة الحزم!.

في المقابل نجد إيران من خلال مشروعها الاستراتيجي قد كسبت مواقع نفوذ كبيرة في عقر دار الساحة العربية والإسلامية. إذ لا تزال شريحة كبيرة جدا عربية وسنية من جاكرتا إلى طنجة تؤمن وتصدق أن إيران هي البلد الوحيد الذي يتصدى للمشروع الصهيوني ويدافع عن القضية الفلسطينية رغم فاتورة الدم الضخمة والبلايا والرزايا والمآسي الذي سببه مشروعها التوسعي في كل من العراق وسورية واليمن!. ولسنا هنا بصدد الحديث عن خطورة المشروع الإيراني إنما للمقارنة بين من يملك مشروعا ومن يفتقده.

عودا على بدء حول القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط التي تتنافس على تقاسم النفوذ وملء الفراغ الحاصل من الانسحاب الأمريكي، إذ تتصارع مشاريع القوى الإقليمية الثلاث فما هي خصائص هذه القوى وما هي ميزات مشاريعها؟

أولاً: المشروع التركي:

يقوم على مبدأ تصفير المشاكل، وتبادل المصالح الذي يقتضي تقوية الجيران والنهوض بهم ليكونوا أغنياء لديهم من الإمكانات المادية ما يمكنهم من الشراء والتبادل التجاري. ويعتمد هذا المشروع البعد الجغرافي والموروث التاريخي أرضية لقاء تؤسس لعلاقة تعاون يضمن مصلحة شعوب المنطقة ويؤمن استقرارها وازدهارها. وقد قطعت الدبلوماسية التركية شوطا كبيرا في هذا المضمار فرممت ما فسد من علاقتها بالجيران وتوجهت نحو بناء شراكات استراتيجية عليا أكثر من اقتصادية بحتة حتى وصل الأمر بها إلى عقد اجتماعات مشتركة لحكومتي سورية وتركيا بشكل دوري مرة في حلب ومرة في عنتاب. لكن انحياز تركيا للشعب السوري بعد ثورته على الدكتاتورية، ونظام الأسد لإيران أجهض تلك تلك الخطوة الحضارية في مهدها.

ولم يكن الانفتاح التركي على دولة الجوار العربي فحسب، بل تعداه إلى بقية الدول التي كانت تصنف قبل حكومة العدالة والتنمية في خانة الدول المعادية مثل اليونان وأرمينية.

إن أهم ما يميز المشروع التركي هو إنسانيته حيث يضع الإنسان في المركز. الإنسان بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه ومذهبه. ولا ننسى مقولة الرئيس رجب طيب أردوغان التي يرددها في كل مناسبة:" نحن نحب المخلوق لأننا نحب الخالق" . كما يتميز المشروع التركي بسلميته، لأن بناء علاقات التعاون لا بد له من أجواء سلم واستقرار سياسي. وهذا ما يفسر تردد القيادة التركية في الأمور التي تقتضي العنف والتدخل العسكري. إذ عقيدة الدولة التركية مبنية على مبدأ أتاتورك الشهير :"السلم في الداخل والسلام في العالم".

ثانياً: المشروع الإيراني:

فرح العالم الإسلامي والشعوب الضعيفة عندما أعلن الخميني أن ثورته هي ثورة جميع المظلومين والمستضعفين في الأرض، وأنه سيصدرها إلى جميع أنحاء العالم. لكن لم تمض سوى بضع سنوات حتى اكتشف الكثيرون أنها لم تكن إلا مشروعًا استراتيجيًا قوميًا مذهبيًا توسعيًا. ولكونه مشروعًا يمتلك رؤية وخطة استراتيجية مدروسة بعيدة المدى فقد نجح في تسويق نفسه والتمدد أفقيًا وعموديًا على رقعة كبيرة في منطقة الشرق الأوسط مسخرًا كل إمكانات ايران في خدمة هذا المشروع حتى لو بقي الشعب الإيراني محرومًا من التنعم بموارده الضخمة. كما عقد تحالفات استراتيجية في عدة اتجاهات مع القوى العالمية. ففي أوج علاقته الاستراتيجية مع الروس لم يتوان عن تقديم الخدمات للأمريكان أثناء احتلالهم لأفغانستان، لذلك ينظر الأمريكان إلى الإيرانيين على أنهم أقوى الشركاء الاستراتيجيين في المنطقة.

ولعل أهم نجاح استراتيجي يسجل للمشروع الإيراني هي احتكاره نصرة القضية الفلسطينية والدفاع عن القدس والمسجد الأقصى من غير أن يضحي بجندي إيراني واحد، وذلك من خلال تسويق فكرة المقاومة والممانعة التي كشفت الأيام والأحداث أنها لم تكن سوى خطوة تكتيكية للوصول إلى مياه البحر الأبيض المتوسط ذاك الحلم الكسراوي القديم، خطوة لم تكلفها سوى مبالغ محدودة من الدولارات صرفتها لبضع فصائل فلسطينية ألجأتها الحاجة لإيران بعد أن ضن بها أشقاؤهم العرب.

إن أهم ما يميز المشروع الإيراني هو استمداده أسباب قوته من الاستقطاب والعنف والحرب وزرع الفرقة والفتنة بين مكونات الشعوب التي طالها نفوذه، وما العراق وسورية ولبنان واليمن عنا ببعيد، فأينما حل المشروع الإيراني فثم التناحر والفتنة والقتل والدماء والدمار والتشريد والخراب.

ثالثاَ: المشروع الإسرائيلي:

غني عن القول أنه مشروع غربي عالمي تم فرضه بقوة السلاح، ولا تزال حمايته مكفولة من جميع القوى الدولية، وهو يهدف إلى تقطيع أوصال الأمة الواحدة بالحيلولة دون تلاقيها وتعاونها وتكاملها اقتصاديا ووحدتها سياسيا.

إن أهم ما يميز المشروع الإسرائيلي كما الإيراني هو استمداد قوته من الاستقطاب والعنف والحرب وزرع الفرقة والفتنة بين مكونات الشعوب العربية والإسلامية، وقد أخذ على عاتقه عملية إجهاض الربيع العربي، وإفشال تطلعات شعوب المنطقة بالحرية والكرامة والديمقراطية.

هذه المشاريع الثلاثة هي التي تقود منطقة الشرق الأوسط. والدول العربية بصدد الاصطفاف خلف واحدة من هذه القوى الإقليمية، وهي نفسها التي تقتسم مناطق النفوذ في سورية شمالا وغربا وجنوبا . سواء بقيت سورية قطرا واحدا أم سيقت للتقسيم.

الدلائل تشير إلى أن الأصابع على الأقلام برسم التوقيع، لكن لا بد للرقص من غندرة.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس