جلال سلمي - خاص ترك برس

إذا رجعنا بعتبات التاريخ إلى قبل عام 1991 أي إلي قبل تاريخ انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي سنجد بأن السياسية العالمية كانت مُحكمة لقطبين رئيسيين "القطب الغربي المتمثل بالولايات الأمريكية المتحدة وحلفائها والقطب الشرقي المتمثل بالاتحاد السوفييتي"، وسنجد أن هذه السياسة تُعرف بالسياسية القطبية الثنائية. ويرجع سبب تسمية السياسة الخاصة بهذه الفترة باسم "السياسة القطبية الثنائية" هو أن جميع سياسات الدول في العالم كانت مبنية على إحدى القطبين إما القطب الغربي أو القطب الشرقي.

حكم ناصر مصر مابين عامي 1954 و1970 وخلال فترة حكمه التي استمرت 22 عام بقي عبدالناصر، على الرغم من ادعائه عدم الانحياز، بجانب الاتحاد السوفياتي وحلفائه خاصة "تشكوسلوفاكيا"، وعلى الصعيد الآخر خلال فترة حكم ناصر لمصر حكم تركيا العديد من الحكومات والقيادات وعلى الرغم من اختلاف هذه الحكومات والقيادات إلا أنها بقيت مرجحة للوقوف بجانب القطب الغربي.

إذا كان الأمر كذلك؛ فكيف كانت العلاقات بين مصر وتركيا خلال فترة حكم جمال عبدالناصر لمصر؟

في دراسة للباحثة في مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية "مليسا تاكلي"، تبين الأخيره أنه"بلا شك بأن أكثر التطورات السياسية اللافتة للانتباه في الشرق الأوسط تجري الآن في مصر، خاصة بعد انقلاب الجنرال عبدالفتاح السيسي بتاريخ 3 تموز/ يوليو 2013 على الرئيس المصري المنتخب لأول مرة بشكل ديمقراطي محمد مرسي، لم يكتفِ السيسي بانقلابه بل استمر بإصدار أحكام الإعدام الجائرة بحق كل من يعارضه ويعارض انقلابه خاصة معارضيه من جماعة الإخوان المسلمين. انقلاب السيسي أحدث الكثير من التغيرات الكبرى والجذرية في سياسة مصر الداخلية والخارجية "خاصة العلاقات الخارجية مع تركيا"، لا يمكن لنا أن نفهم هذه التطوارات الجارية في مصر دون الرجوع إلى الجذور التاريخية لها. ونود أن نذكر بأن عهد ناصر هو العهد التاريخي الذي نبتت فيه الجذور التاريخية للتطورات الجارية في مصر".

كنبذة تاريخية قصيرة دخلت مصر تحت إدارة الدولة العثمانية عام 1517، واستمرت كأحد الولايات العثمانية إلى عام 1914، وعلى الرغم من دخولها تحت الحماية البريطانية عام 1883 إلا أنها استمرت كولاية عثمانية لغاية عام 1914. وفي عام 1952 انقلب الضباط الأحرار بقيادة محمد نجيب على النظام الملكي ونجحوا بالإطاحة بالملك فؤاد من سدة الحكم ونفوه للخارج. وفي عام 1953 تم إعلان تأسيس الجمهورية المصرية، وفي عام 1954 نجح جمال عبد الناصر بإقصاء الرئيس محمد نجيب عن الحكم وتولى مقاليد الحكم ونجح في إجبار بريطانيا على توقيع إتفاقية الجلاء معه.

وحسب الباحثة تاكلي، "تتميز سياسة جمال عبدالناصر الخارجية بتبني القومية العربية وتحقيق الوحدة العربية، هذه السياسة خلقت تغيرًا جذري في "هوية المصالح المصرية" حيث تحولت من دولة تقف لجانب الغرب إلى دولة مضادة ومعارضة للغرب وسياسته الرافضة لتوحد الدول العربية، بعد قدوم جمال عبد الناصر، أول وعد له كان تحرير مصر وضمان استقلالها عن الغرب وسياسته التي تهدف إلى إبقاء دول الشرق تابعة له".

وتشير تاكلي إلى أنه "خلال الحرب الباردة على الرغم من اتخاذ جمال عبدالناصر دورًا قياديًا في تأسيس حركة عدم الانحياز إلا أنه أسس علاقات تعاون قوية ومتنوعة مع الاتحاد السوفييتي، وخلال هذه الفترة كانت توجد في تركيا حكومة تابعة للحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندرس الذي كان يقف إلى جانب القطب الغربي وسياسته الخاصة بالشرق الأوسط".

بسبب سياسة تركيا القريبة للغرب قام عبد الناصر في شهر كانون الثاني/ يناير من عام 1954 بإعلان سفير تركيا في القاهرة "خولوصي فؤاد توجاي" شخصًا غير مرغوب به وطرده خارج مصر، الأمر الذي أدى إلى تدهور العلاقات التركية المصرية بشكل كبير فور تولي عبدالناصر مقاليد الحكم في مصر.

كما أن قيام تركيا بتولي الدور القيادي في حلف بغداد الذي تأسس عام 1955 بين كل من تركيا والعراق وباكستان وبريطانيا وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية جعل العرب وخاصة مصر ينظرون إليها نظرة "المساعد للغرب في تقسيم وتفتيت الوحدة العربية، داعمة إسرائيل في المنطقة. وهذا ما جعل مصر تتقرب أكثر للاتحاد السوفييتي، وبعدها أصبحت تركيا تنظر إليها على أنها عميلة الاتحاد السوفييتي في المنطقة، وهذا ما أدى إلى زيادة تدهور العلاقات بين الدولتين".

وبالرجوع إلى الباحثة تاكلي بخصوص هذا الموضوع، فهي تؤكد أن "الأزمات السياسية ذات الطابع الدولي الخاصة بمصر كان لها أيضًا تأثير كبير على العلاقات بين الدولتين؛ خاصة أزمة السويس، فعلى الرغم من إدانة تركيا لهجوم إسرائيل على مصر إلا أن وقوفها بجانب الغرب في ادعائه حق السيطرة على القناة أدى إلى زيادة تدهور العلاقات بين الطرفين".

أيضًا فيما يتعلق بهذا الأمر، يقول محمد أوزكان المتخصص بشؤون الشرق الأوسط والباحث في مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية "سيتا"، إنه "على الرغم من أن ناصر أسس حركة عدم الانحياز إلا أن خطاباته الداعمة للاشتراكية والمناهضة للغرب وسياساته الإمبريالية جعلت الاتحاد السوفييتي يزيد من دعمه لناصر كحليف استراتيجي في المنطقة. وبالإضافة إلى هذا الدعم أدى تفكك تحالف بغداد عام 1958 بسبب الانقلاب العسكري الداعم لناصر إلى جعل تركيا تنظر إليه على أنه منافس عدائي رجعي يهدف إلى زيادة المد السوفييتي في المنطقة، الأمر الذي زاد من تخوف تركيا ومن تدهور العلاقات السياسية بين مصر وتركيا".

بعد انقلاب "الضباط الأحرار" في تركيا بتاريخ 27 أيار/ مايو 1960 استبشر ناصر بسياسة تركية جديدة بعيدة عن الغرب وهيمنته، إلا أن هذا لم يحدث، وبدا ذلك واضحًا من خلال قراءة الضباط قادة الانقلاب لبيان إعلان الانقلاب، حيث أكدوا في أول نقطة به أن تركيا ما زالت داعمة وبقوة لجميع الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تربطها بالغرب. وبعد تفكك الجمهورية العربية المتحدة في عام 1961 كانت أول دولة معترفة باستقلال سوريا هي تركيا، الأمر الذي زاد من توتر العلاقات بين تركيا ومصر وهدد ناصر بقطع العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل إذا لم تتوقف تركيا عن سياستها المضادة لمصر والمبنية على التحدي.

بعد خيبة الأمل التي أعطتها الولايات الأمريكية المتحدة لتركيا عام 1965 والتي تتمثل في رفض أمريكا دعم تركيا في تحركها لإيقاف المذابح التي ترتكب بحق المواطنين الأتراك في جزيرة قبرص، بدأت في التحرك بشكل مستقل أكثر وبعيد عن الغرب وسياسته، ومن أجل ذلك حاولت لاسترجاع علاقاتها مع دول الشرق الأوسط وخاصة مصر، وقام وزير خارجية تركيا في ذلك العهد صبري تشالايان بزيارة مصر في شهر كانون الثاني/ يناير عام 1967 بشكل رسمي وعلى مستوى رفيع، صبري لم يستطع استرجاع العلاقات الدبلوماسية بين تركيا ومصر بشكل قوي كما كانت في السابق ولكنه استطاع إقناع الطرف المصري بفتح قنصليات متبادلة في إسطنبول والإسكندرية.

أيضًا بعد أن تعرضت تركيا للغدر من الغرب، قامت خلال حرب عام 1967 على النقيض من موقفها خلال حرب السويس عام 1956 بدعم العرب والوقوف بجانبهم. كما قامت بإرسال المساعدات الإنسانية مثل الملابس والأدوية والغذاء إلى الدول العربية وعلى رأسها مصر.

قيام الغرب بترك تركيا في محنتها جعلها تشعر بضرورة تنويع علاقاتها السياسية والدبلوماسية وأن تعتمد على السياسة الانسيابية واللينة والتعددية في علاقتها مع الدول الأخرى وخاصة مصر المنافس الأكبر لها في الشرق الأوسط. بعد قدوم أنور السادات عام 1971 على رأس الحكم في مصر سلك طريق الانفتاح الليبرالي والتقارب مع الغرب والسياسة الغربية، ما سهل على تركيا إعادة تطوير علاقاتها مع مصر بشكل أقوى.

واليوم يمكن إرجاع سبب تدهور العلاقات بين مصر وتركيا إلى تنافس الاثنين على الدور القيادي في المنطقة، كما لا ننسى عامل القومية العربية الذي يحكم نظام السيسي والذي يرى من تركيا دولة استعمارية تسعى للسيطرة على مصر سياسيًا، كما أن الجذور التاريخية للعساكر المصريين الحاليين المنشّئين على نفس نهج ناصر لها دور كبير في جعل السيسي يتخذ تركيا العدو الأول له في المنطقة.


المصادر

- وزارة الخارجية التركية، العلاقات التركية المصرية http://www.mfa.gov.tr/misir-siyasi-gorunumu.tr.mfa

ـ ماليسا تاكلي، العلاقات التركية المصرية خلال فترة حكم جمال عبدالناصر، مركز الشرق الأوسط للأبحاث الاستراتيجية http://www.orsam.org.tr/tr/yazigoster.aspx?ID=5429

ـ محمد أوزكان السياسة الخارجية المصرية بين الأمس واليوم، مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية،

http://file.setav.org/Files/Pdf/20140314191223_misir-dis-politikasi-dunu-bugunu-sorunlari-pdf.pdf

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!