د. مدى الفاتح - خاص ترك برس

خلاصة الاتفاق النووي هو أن تمتلك إيران شرعية العودة للمجتمع الدولي وأروقته السياسية والاقتصادية نظير تأجيل التفكير في مشروعها النووي لعشر سنوات قادمة.

خلال هذه السنوات يصبح من حق إيران الانفتاح على كل العالم أولاً وعلي العالم الذي كان يضيّق عليها خاصة مما يفتح لها ولمن يدخل معها في هذه الصفقات الرابحة أبواباً تجارية كثيرة يمكن أن تدر الملايين، بل المليارات.

الخطورة هنا من ناحيتين: الأولى هي تقوية إيران اقتصادياً أكثر مما يجعلها أكثر تضخماً وعزماً على تجاوز حدودها الشاسعة أصلاً لتتدخل على طول الخليج والمناطق المجاورة وغير المجاورة، والثانية هي أننا سنواجه حتماً بعد عشر سنوات أو أكثر بإيران نووية.

كل القراءات تقودنا إلى إيران النووية، فلو اكتفت إيران باستيراد الخبرات والتوسع في مشاريع البحوث برعاية الدول التي سبقتها في هذا المجال فإن بإمكانها أن تنتج سلاحها النووي ببساطة بعد هذه السنوات خاصة بعد توفير المعرفة والمواد اللازمة لذلك، أما لو اصطحبنا النوايا السيئة فسنقول أن إيران ما كانت لتقف مكتوفة الأيدي حتى خلال سنوات الاتفاق وأنها ستحاول العمل بسرية لتحقيق مشروعها في أسرع وقت ممكن خاصة وأن الرقابة التي يفرضها الاتفاق رقابة رمزية يمكن توجيهها والتحكم بها بسهولة.

هل يمكن إعادة العقوبات في حال ثبت أن إيران تعمل ما تزال على مشروعها النووي بسرية؟ هذا السؤال يجيب عليه الرئيس الامريكي باراك أوباما نفسه الذي يرى أن العقوبات لم ولن تمنع إيران من محاولات التمتع بسلاح نووي متطور، أما الحل بحسب الإدارة الأمريكية فهو التفاوض المستمر وكلمة "الجنتل مان"..!

في الواقع فإن أوباما هنا بدا وكأنه يلعب دور الوسيط بين إيران وبين صناع القرار الغربيين فكان الأحرص على نجاح الاتفاق مهما حدث ومهما بدرت من عراقيل فسعى لإقناع السياسيين المعادين لإيران والمتخصصين المتشككين في نواياها، كما أنه رفض بقوة ربط الاتفاق بمسائل السياسة الأخرى، كسلوك إيران في المنطقة، حتى لا يغضب حليفته الجديدة.

الغريب أن إيران التي بدأت مباحثاتها برفض خلط الموضوعات هي التي طرحت على طاولة التفاوض نقاطاً ليست ذات علاقة بالمسألة النووية فطالبت بالتعاون معها فيما يختص بالأسلحة الأخرى، كما طالبت برفع اسم الحرس الثوري من قائمة الإرهاب وكذلك أسماء لشخصيات أخرى بارزة ومتورطة في عدد من العمليات كقاسم سليماني.

المهم هنا هو أن الموقف الأمريكي الجديد الذي يدعم بقوة تقارباً قوياً مع إيران قد غير كثيراً من الحسابات في المنطقة فبدا وكأن الولايات المتحدة قد غيرت بوصلتها من الخليج العربي إلى الخليج الفارسي..!

من تأثيرات ذلك محاولة السعودية خلق شراكة جديدة مع دول المنطقة القوية وخاصة تركيا ومصر وإن كان الجمع بين الأخيرتين قد أصبح كالجمع بين الأختين لما بينهما في اختلاف هيكلي في وجهات النظر.

السعودية حاولت بدورها أيضاً الاجتهاد في لجم إيران في سوريا وفي اليمن التي تدخلت فيها بقوة من أجل توقيف المد الحوثي المدعوم من إيران.

من نتائج هذا الاتفاق أيضاً ما ذكرته تحليل لصحيفة كريستيان ساينس مونيتور بتاريخ 23- 7 عن ما سمته إعادة التقارب بين السعودية والأخوان المسلمين الذين اعتبرتهم الصحيفة حلفاء للمملكة في فلسطين التي يهم المملكة أن تنأى مقاومتها بنفسها عن إيران ومساعداتها، وفي اليمن التي يتشارك حزب الإصلاح فيها ذات الهدف السعودي المتمثل في إنهاء التحالف الإيراني الحوثي.

هذه السياسة تحتاج حذراً كبيراً فما يزال دعم السعودية للأخوان في مصر مستبعداً ورغم فتور العلاقة مع النظام المصري الحالي إلا أنه لا يبدو أن أحداً من القيادة السعودية على استعداد للسماح باستعادة حكم الأخوان في مصر.

الرأي العام، وخاصة تلك الوسائط التي يسيطر عليها علمانيون متطرفون، ما يزال يحذر من تدخل الأخوان في الشأن الداخلي للخليج مما يجعلهم حلفاء على المستوى الإقليمي البعيد فقط.

السعودية ليست الوحيدة التي تعيد حالياً ترتيب حساباتها فهناك أيضاً روسيا التي فقدت فجأة شريكاً طالما رافقته في مهام السخرية من النظام العالمي ومن الشرعيات الدولية. إيران الجديدة هي أقرب بالتأكيد إلى الغرب وأبعد من روسيا التي كانت صديقتها الوحيدة لوقت طويل وهي غير مستعدة لبيع علاقتها الجديدة مع أوروبا وأميركا الناقمتين على روسيا وسياساتها.

روسيا سوف تخسر الكثير معنوياً أولاً ومن الناحية الاقتصادية ثانياً فهي حالياً مكبلة بعدد من العقوبات التي تمنعها حتى من التمتع بالمواد الخام الإيرانية أو بمعظم صادراتها الاستراتيجية.

ذلك كله سيفرض على روسيا بالتدريج الابتعاد عن إيران والاقتراب أكثر من الدول الخليجية الكبرى التي تختلف معها أكثر ما تختلف في الموضوع السوري.

لأن سوريا بالنسبة لروسيا قضية أساسية فهي لا شك ستحاول الفصل بين الموضوعات من أجل خلق شراكة تتجاوز هذا الموضوع أو على الأقل تؤجل الحديث عنه حتى حين.

لا ننسى أن روسيا تعرضت في ذات الوقت لضربتين موجعتين وهما الاتفاق الإيراني والاتفاق اليوناني، فقد كانت روسيا تريد أن تكون اليونان مسماراً في النعش الأوروبي يضم إلى حلفائها الإقليميين ويؤدي إلى إضعاف خصومها الأوروبيين، لكن ما حدث هو أن اليونانيين من جهة وبقية الاوروبيين من جهة أخرى رأوا أن مصلحتهم تتمثل في التوحد سوياً والتضامن برغم المشقة والاختلاف.

تركيا كانت الوحيدة التي لم تنزعج من الاتفاق فهي، وإن لم تكن على وفاق سياسي كامل مع إيران فيما يخص الملفات الإقليمية، إلا أنها أيضاً لم تكن في حالة صراع مفتوح معها وهي تتعاون معها اقتصادياً وتجارياً خاصة لجهة الاستفادة من موارد طاقتها، أيضاً فتركيا لم تعد تراهن بقوة على الأصدقاء العرب الذين تراهم يمارسون في الغالب سياسات مضطربة وغير واضحة، وهي سعيدة الآن بموقفها الدبلوماسي الذي يسعى للاقتراب من جميع الأطراف والاستفادة بقدر الإمكان من الممكن والمتاح.

تركيا تتحرك بروية وبلا تشنج وهي تحافظ على علاقتها بالقوى الغربية وبإيران في ذات الوقت الذي لا تخفي فيه عدائها لنظام بشار الأسد الذي يقتل شعبه وهي في كل ذلك لا تتحدث لا بطائفية ولا عنصرية مما يجعل مساحتها في التحرك أكبر على الصعيد الإنساني.

الاتفاق إذاً صخرة كبيرة رميت على بركة كانت راكدة لعقود، وبرغم كل هذه التداعيات فإن الإتحاد الأوروبي من جهة والأمريكيين من جهة أخرى ما يزالون يتجولون في المنطقة من أجل إقناع زعمائها بأن هذا الاتفاق عمل متحضر لا يضر أحداً أو من أجل إقناعهم بأن إيران العضو الأصيل في المجتمع الدولي هي بكل حال أفضل من إيران الأخرى التي تعمل في الظلام ولا يعرف نواياها أحد.

عن الكاتب

د. مدى الفاتح

كاتب سوداني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس