علي باكير - مركز الجزيرة للدراسات

رحبت تركيا رسميًّا بالاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في فيينا بتاريخ 14 يوليو/تموز 2015 بين إيران ومجموعة الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين (E3)**، وأصدرت وزارة الخارجية التركية بيانًا هنَّأت فيه الأطراف على جهودهم التي أدت إلى إمكانية التوصل إلى هذه النتيجة، مؤكدة على ضرورة وأهمية تطبيق كافة بنود هذه الاتفاقية وتحقيق الشفافية الكاملة في التعامل مع المجتمع الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية ومشيرة إلى أهمية الالتزام بالتطبيق الكامل لجهة إرساء السلام والأمن والاستقرار في المنطقة.

أمَّا وزير الاقتصاد المالية محمد شيمشك فقد أشار في تغريدة له على تويتر حينها إلى أن الاتفاق هو "خبر جيد للاقتصاد التركي وسيعطي التجارة البينية والاستثمارات بين البلدين دفعة قوية". وكذلك فعل وزير الطاقة والموارد الطبيعية تانر يلدز، الذي أشار إلى أن الاتفاق "تطور إيجابي يفتح باب الاستثمارات أمام إيران وله انعكاسات على أسعار النفط".

منطلقات الموقف الرسمي التركي من الاتفاق

هذه الردود الرسمية التركية تأتي متسقة ومنسجمة مع المواقف التي تم التعبير عنها قبل أشهر قليلة أيضًا إبَّان الاتفاق الإطاري المعروف باسم "معايير خطة العمل المشتركة الشاملة" (JCPOA) الذي أُعلن في 2 إبريل/نيسان 2015 في مدينة "لوزان" السويسرية، ومع الموقف التركي الرسمي المبدئي من الملف النووي الإيراني، وهو الموقف الذي يقوم على ضرورة تجنب الخيار العسكري، ويدعم منذ البداية التوصل إلى حلٍّ سياسي ودبلوماسي للملف النووي الإيراني؛ ما دام أن برنامج إيران النووي للاستخدامات النووية السلمية المشروعة؛ وليس برنامجًا عسكريًّا لإنتاج أسلحة نووية.

وقد ترسخ هذا المعطى بشكل واضح من خلال الخطوات التي اتخذتها الحكومة التركية خلال السنوات الماضية، وأهمها:

- رفض العقوبات المفروضة على إيران منذ عام 2006.

- التوسط بين إيران والغرب، وإطلاق عملية تفاوضية بالتعاون مع البرازيل لحل الأزمة النووية الإيرانية في عام 2010.

- تحدي العقوبات الأميركية والأوربية التي فُرِضت على إيران في عام 2010، والتصويت ضد قرار فرض هذه على طهران عندما كانت أنقرة عضوًا في مجلس الأمن.

لم يسبق للحكومة التركية أن اعترضت على ضرورة التوصل لاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، ولم تعترض كذلك على حقِّ إيران في تخصيب اليورانيوم محليًّا (سنناقش دافعه في الورقة). الموقف التركي كان -ولا يزال- يقول: إن لإيران الحق في الحصول على الطاقة النووية السلمية؛ ما دام كان موقفها جيدًا مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من ناحية المسؤوليات الملقاة على عاتقها بموجب الالتزامات التي تفرضها الوكالة.

ضمن هذه المحدِّدات، تفسِّر أنقرة -أيضًا- الاتفاق الحالي على أنه يأتي في سياق استكمال جهدها الدبلوماسي والتفاوضي الأساسي الذي بذلته في المرحلة الأولى من التفاوض عام 2010؛ عندما استطاعت بالتعاون مع البرازيل التوصل إلى اتفاق عُرفِ باسم: "إعلان طهران"، وقد عارضته حينها الولايات المتحدة بقوة.

ومنذ ذلك العام وحتى اليوم لا يمل الأتراك من إعادة التذكير بهذا الأمر، والتأكيد عليه في كل تقدم يكون في السياق التفاوضي، وهو الأمر الذي عبَّروا عنه إبَّان الاتفاق الإطاري الأول عام 2013، وأيضًا في هذا الاتفاق الإطاري الذي أُعلن عنه في 2 من إبريل/نيسان 2015؛ لاسيما مع زيارة أردوغان إلى طهران؛ حيث كرر هذا الموقف هناك وقام الرئيس الإيراني حسن روحاني بشكر تركيا على الدعم المتواصل الذي قدمته لإيران في مفاوضات البرنامج النووي الإيراني.

لكن التطور الجديد هذه المرة تصريح وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو أثناء مؤتمر صحافي جمعه بوزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري في 14 يوليو/تموز 2015. وبالرغم من أن تصريح تشاووش أوغلو حمل نفس المضامين التي ذكرناها في بيان وزارة الخارجية أعلاه، الا أنه كان أكثر صراحة ودقة في التعبير عن الموقف الرسمي التركي من الاتفاق النووي الإيراني بعيدًا عن المجاملات الدبلوماسية، وبدت كلماته مختارة بعناية عندما شدَّد على ضرورة إحداث تغييرات في السلوك الإيراني الإقليمي؛ حيث أشار في تصريحه إلى أن الاتفاق:

- سيُسهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي وفي الاقتصاد الإقليمي.

- سيكون له تأثير إيجابي مباشر على تركيا. 

- يجب أن يتم تطبيقه بشكل كامل وبشفافية كاملة.

وقد أتبع الوزير ذلك بدعوته طهران إلى مراجعة سياساتها الإقليمية وضرورة الابتعاد عن السياسات الطائفية ولاسيما في سوريا والعراق واليمن قائلًا: "يجب أن تلعب دورًا إيجابيًّا وبنَّاءً وتُولي أهمية للحوار والحلول السياسية، هذا ما نتوقه من أشقائنا في إيران".

من الواضح أن الشقَّ الثاني من التصريح هو الشق الذي يعبِّر عن الحذر التركي من السياسات الإيرانية الإقليمية وهو في نفس الوقت انعكاس دقيق للصورة السلبية لدى الأتراك عمومًا عن إيران والتي تزداد بشكل مطَّرد منذ سنوات لاسيما منذ اندلاع الثورة السورية.

الانعكاسات الإيجابية المحتملة على تركيا

1) انتفاء خطر التهديد النووي الإيراني والخيار العسكري

لطالما كان احتمال امتلاك إيران للسلاح النووي يُشَكِّل مصدر قلق بالنسبة إلى تركيا خلال السنوات الماضية؛ وعلى الرغم من إدراكها أن امتلاك النظام الإيراني للسلاح النووي سينعكس بشكل سلبي بالضرورة على أمن تركيا، وعلى التوازن الراسخ منذ عقود طويلة في ميزان القوى بين البلدين، وعلى استقرار منطقة الشرق الأوسط برُمتها؛ وسيخوِّل كذلك إيران بسطَ سيطرتها السياسية على منطقة الشرق الأوسط؛ إلا أن أنقرة حاولت التعامل خلال المرحلة الماضية مع هذا الموضوع بروية ومن دون توتر أو انفعال. بالنسبة إلى أنقرة، فإن التوصل إلى حلٍّ دبلوماسي من دون اللجوء إلى خيار القوة العسكرية قطع الطريق على مثل هذه الاحتمالات السلبية وهو أمر جيد بالتأكيد بالنسبة لها.

بعضهم قد يجادل بأن تركيا تستطيع على الدوام الاعتماد على المظلَّة النووية لحلف شمال الأطلسي؛ لكن ذلك في حقيقة الأمر لا يُرضي تطلعات أنقرة في حال كانت إيران تمتلك أسلحة نووية، ولا يبعث على الطمأنينة بشكل كافٍ؛ سيما مع الاختبارات المتكررة والمخيبة للآمال بشأن مدى تضامن الحلف مع تركيا في الأزمات؛ لاسيما العراقية والسورية الحالية.

2) التأكيد على حقِّ تخصيب اليورانيوم محليًّا

أحد أهم أسباب عدم معارضة تركيا لحقِّ إيران في تخصيب اليورانيوم ذاتيًّا، هو الطموح ربما في فعل الأمر نفسه مستقبلًا؛ إذ من الممكن أن يصبح الجانب التركي في نفس الموقف مستقبلًا، وإذا ما عارض حقَّ التخصيب ذاتيًّا فإنه قد يغلق بذلك الباب أمام نفسه لأية عملية مشابهة في المستقبل؛ خاصة أن أنقرة تمتلك خططًا نووية طموحة، كما أن اعتمادها الكبير على الطاقة واستهلاكها المتزايد لها يحتم عليها إيجاد مصادر بديلة، ولا شك أن الطاقة النووية تقع في صلب هذا التصور، وهي أحد أهم أهداف الحكومة التركية المستقبلية.

في شهر إبريل/نيسان الماضي، أعلنت الحكومة التركية انطلاق أعمال التشييد والبناء في المفاعل النووي الأول في البلاد ضمن مشروعٍ يهدف إلى بناء أربعة مفاعلات في منطقة "أكويو" وحدها بمدينة مرسين؛ بتكلفة حوالي 20 مليار دولار وبقدرة 1200 ميغا واط للمفاعل الواحد، علمًا بأن الجانب التركي كان قد وقَّع اتفاقًا مع الحكومة اليابانية العام الماضي تضمَّن بندًا يُرَكِّز على عملية تخصيب اليورانيوم واستخراج البلوتونيوم، وقد أثار ذلك حينها لغطًا كبيرًا في الإعلام؛ على الرغم من تأكيد وزير الطاقة أن الاتفاق عادي كغيره من الاتفاقيات التي وقَّعتها الحكومة التركية مع شركاء آخرين، وأنه لا نيَّة حالية لدى تركيا لتخصيب اليورانيوم محليًّا.

وفي هذا المجال، فإن الاتفاق النووي الأخير بين أميركا وإيران يُعزِّز من موقف أنقرة واحتفاظها بحقوقها المستقبلية فيما يتعلق بتخصيب اليورانيوم محليًّا بما يتوافق مع اتفاقية منع الانتشار النووي؛ لاسيما في ظل التوجهات المتزايدة لدى الولايات المتحدة والقوى النووية المحدودة في العالم لدفع البلدان الطامحة إلى طاقة نووية للابتعاد عن حق التخصيب محليًّا (كي لا يؤدي إتقان الدول للتخصيب بنسب عالية وإتقان دورة الوقود إلى وجود المزيد من الدول التي تمتلك أسلحة نووية) مقابل أن يتم تأمين الوقود النووي لها.

3) تحسُّن العلاقات التركية-الأميركية

الاتفاق قد يؤدي إلى تحسين العلاقات الأميركية-التركية؛ إذ لطالما شهدت هذه العلاقات بين البلدين حالة من المدِّ والجزْر في السنوات القليلة الماضية، وشهدت مشاكل ناجمة عن مواقف مختلفة أو متضاربة من حالات بعينها، أو بسبب موقف إحدى الدولتين من دولة ثالثة؛ كالموقف الأميركي إلى جانب إسرائيل إبَّان الاعتداء على أسطول الحرية، أو الموقف التركي إلى جانب إيران إبَّان فرض العقوبات على الأخيرة عام 2010 بسبب برنامجها النووي.

الاتفاق الأميركي-الإيراني قد يضع أنقرة في موقع أفضل لإدارة علاقات ثنائية متعددة؛ وذلك مع دول الخليج وإيران من جهة، أو مع إسرائيل وإيران من جهة أخرى؛ لكن هذه الافتراضات تعد مجرد احتمالات لا يمكن القطع بها أو بأحدها، وتعتمد في النهاية على الشق السياسي من تداعيات الاتفاق النووي الأميركي-الإيراني؛ وهو الشق غير المذكور والأكثر غموضًا في الموضوع.

4) منافع اقتصادية متعددة

عندما كان موضوع رفع العقوبات عن إيران خاضعًا للتجاذب في المفاوضات، أوجزت ويندي شيرمان، مساعدة وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية وكبيرة المفاوضين في الملف الإيراني الصورة، بقولها: في حال تم رفع العقوبات فعلًا، "فسيتجه العالم إلى إيران كالطوفان"؛ إذ من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى إعطاء دفعة غير مسبوقة من الزخم للاقتصاد الإيراني، قد نبدأ برؤية مفاعيلها في الربع الأول من عام 2016، مترافقة مع زيادة إيران لإنتاجها من النفط بمقدار مليون برميل يوميًّا؛ وذلك خلال أشهر كما صرَّح وزير النفط الإيراني، كما سيكون من المتوقع أن يؤدي رفع العقوبات إلى إعادة فتح الاقتصاد الإيراني أمام العالم، ويتيح لها الحصول كذلك على أكثر من 100 مليار دولار من أموال عائدات النفط؛ التي كانت مجمَّدة بسبب العقوبات.

وبما أن إيران تمتلك ثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم، وكذلك رابع أكبر احتياطي من النفط، وثاني أكبر احتياطي من المعادن النادرة، وهي سوق استهلاكية كبيرة تضم حوالي 77 مليون نسمة، وبيئة متعطشة للاستثمارات، يتوقع كثيرون أن تستطيع تحقيق نسبة نمو تصل إلى ما بين 5 إلى 8% سنويًّا، ولا شك في أن هذه المعطيات تعد عاملًا إيجابيًّا بالنسبة إلى تركيا لناحية:

أ. ‌رفع حجم الصادرات والتبادل التجاري مع إيران

أدَّى تشديد العقوبات على إيران -لاسيما في عام 2012- إلى تراجع التبادل التجاري بين طهران وأنقرة من حوالي 22 مليار دولار عام 2012 إلى حوالي 14.8 مليار عام 2013، وصولًا إلى 13.7 مليار دولار عام 2014، وتراجعت إثر ذلك الصادرات التركية من حوالي 10 مليارات دولار عام 2012 إلى حوالي 3.9 مليارات دولار عام 2014؛ أي إن أنقرة خسرت حوالي 6 مليارات دولار بشكل مباشر خلال سنتين نتيجة العقوبات المفروضة على إيران.

ولا شك في أن عودة الاقتصاد الإيراني إلى التعافي ستسمح للمصدِّرين الأتراك بزيادة صادراتهم من السلع والبضائع إلى سوق ضخمة؛ وهذا من شأنه أن يزيد حجم الصادرات ويقلِّل من العجز، وينعش الاقتصاد التركي أيضًا؛ نظرًا إلى قلة التكاليف مقارنة بنسبة الأرباح، لاسيما بعدما تأثرت تركيا بفقدان أسواق إقليمية كـ(سوريا وليبيا)، أو تراجع الصادرات إلى أخرى كـ(العراق ومصر)؛ علمًا بأن الأراضي الإيرانية قد تصبح بديلًا محتملًا عن الخط الملاحي المصري بعدما رفض النظام المصري تجديد اتفاقية الخط الملاحي "الرورو" مع تركيا في 23 من إبريل/نيسان؛ إذ يمكن نقل الشاحنات التركية برًّا إلى ميناء بوشهر، ومنه إلى كل من قطر والإمارات (دبي)، ومنهما إلى باقي دول الخليج.

وتطمح تركيا إلى أنْ تضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين من 14 مليارًا حاليًا إلى حوالي 30 مليارًا في غضون سنتين؛ كما جاء في الاجتماع الثاني للجنة الاستراتيجية العليا في طهران خلال زيارة أردوغان الأخيرة، وهو أمر من الممكن تحقيقه والوصول إليه سريعًا مع رفع العقوبات عن إيران؛ خاصة مع دخول "اتفاق التجارة التفضيلية" بين البلدين هذا العام حيز التنفيذ.

ب. ‌استيراد المزيد من النفط والغاز بسعر أرخص

لا شك في أن رفع العقوبات عن إيران -ولاسيما عن قطاعي النفط والغاز- سيسمح لها بتصدير المزيد من الكميات إلى الخارج؛ وبما أن تركيا دولة تعتمد بشكل شبه كامل على استيراد الطاقة من الخارج بما يلبي احتياجاتها لتحقيق النمو والتنمية، فإن هذا يعني استيراد المزيد من النفط والغاز الإيراني وبسعر أرخص.

- النفط: على الرغم من أن رفع العقوبات عن إيران في هذا المجال سينهي نظام الأفضليات؛ الذي كانت إيران تتبعه لإغراء المشترين بشراء نفطها بسعر أقل، فإن عودة إيران إلى السوق ستؤدي إلى انخفاض أسعار النفط كما هو متوقع؛ وفي ذلك فائدة من دون شك للجانب التركي؛ الذي يدفع ما بين 56 و60 مليار دولار فاتورةً للطاقة سنويًّا.

- الغاز: يستورد الجانب التركي حوالي 90-95% من صادرات إيران من الغاز، وتشكِّل حوالي 20% من احتياجات تركيا من الغاز الطبيعي، وتعتبر طهران ثاني أكبر مزود لتركيا بالغاز بحجم 10 مليارات متر مكعب سنويًّا، تدفع تركيا بموجب اتفاقية وُقِّعت مع إيران في عام 1996 وسارية لمدة 25 عامًا، سعر الغاز الإيراني بمبلغ يزيد حتى عن سعر الغاز المبيع في السوق (487 دولارًا أميركيًّا لكل ألف متر مكعب من إيران، مقابل 418 دولارًا من روسيا، و340 دولارًا من أذربيجان).

لقد رفضت طهران دومًا تخفيض الأسعار، وكان على الجانب التركي أن يدفع حتى لو لم يستهلك الغاز الإيراني. في الزيارة الأخيرة لرئيس الجمهورية التركية إلى إيران، طرح أردوغان فكرة استيراد المزيد من الغاز الإيراني؛ إذا خفضت طهران سعر غازها، وهناك مَنْ أشار إلى أن طهران قد تُخَفِّض السعر لتركيا بنسبة 16%، علمًا بأن ما طلبته تركيا هو تخفيض بنسبة 32%.

- استثمارات قطاع الطاقة: هناك مؤشرات على إمكانية أن يستثمر الجانب الإيراني في مشاريع الطاقة التركية أيضًا، وقد سبق لوزير الطاقة التركي أن رحَّب بمثل هذا الأمر في شهر إبريل/نيسان الماضي مؤكدًا أن بإمكان إيران شراء حصة في مشروع نقل الغاز المعروف باسم (TANAP)، والذي ينقل الغاز من بحر قزوين عبر أذربيجان وجورجيا إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا وتبلغ تكلفته حوالي 20 مليار دولار. كما أن تركيا ستعزِّز دورها كممر لنفط وغاز إيران إلى الخارج لاسيما إلى دول الاتحاد الأوروبي.

ج. ‌زيادة حجم الاستثمارات التركية في إيران

يشير البعض إلى أن الشركات التركية في موقع مميز الآن؛ يُتيح لها أن تكون الأسرع في استغلال وجني ثمار أي انفتاح سريع للاقتصاد الإيراني؛ على اعتبار أن لها ركائز سابقة في السوق الإيرانية؛ إذ يوجد في إيران اليوم حوالي 100 شركة تركية يعمل غالبيتها في مجال الاستيراد والتصدير، فيما نفَّذ بعض شركات المقاولات التركية مشاريع بقيمة حوالي 530 مليون دولار.

الانعكاسات السلبية المحتملة على تركيا

غالبًا ما تركِّز تصريحات المسؤولين الأتراك سريعًا على الانعكاسات الاقتصادية لمضامين الاتفاق النووي الإيراني على الاقتصاد التركي، وهو الشق الذي يحمل معه على المدى القصير على الأقل منافع للجانب التركي كما سبق وشرحنا، لكن بموازاة الفرص التي قد يفتحها الاتفاق لتركيا، لدى الأتراك كافة المبررات التي تجعلهم يتحسبون للتحديات التي سيفرضها هذا الاتفاق عليهم، وللانعكاسات السلبية التي قد يحملها معه، وأهمها:

1) احتدام التنافس الجيوبوليتيكي

الاتفاق النووي الأميركي-الإيراني لا يتطرق إلى سياسة إيران الإقليمية، وعلى الرغم من أن بعض المسؤولين الأتراك يأملون في أنْ يؤدي إلى استقرار إقليمي، فإن الانطباع العام السائد لدى الجانب التركي هو أنه لن يؤديَ إلى تغيير السلوك الإيراني؛ بل إن الاتفاق قد يعطي إيران دفعة إقليمية، ويعزِّز من اندفاعها الجيوسياسي.

الاتفاق يقوِّي العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين إيران والغرب عمومًا، وقد يُحَولها إلى نجم صاعد، وهذا يعطي طهران أفضلية إقليمية؛ خاصة مع الآمال الأميركية المعقودة عليها بالعمل على ملفات مشتركة هي في الأساس تعمل فيها ضد المصلحة التركية؛ سواء في سوريا أو في العراق أو في الخليج.

وفي كلتا الحالتين؛ سواء أدَّى الاتفاق إلى تغيير سلوك إيران أو لم يؤدِّ إلى ذلك، فإنه سيترك انعكاساته على موقع أنقرة ودورها الإقليمي، ولا يبدو أن أنقرة قد حسمت أمرها حتى الآن في الاعتماد على سياسة واضحة لمواجهة مثل هذا التحول؛ وذلك باستثناء محاولة الاستفادة من الشق الاقتصادي الذي يؤمِّنه الاتفاق لها.

2) تراجع قدرة تركيا على الضغط والمناورة

إذا ما صحَّ السيناريو القائل: إن إيران ستواصل اندفاعها وتوسعها الإقليمي؛ فهذا سيتطلب من أنقرة حتمًا مواقف أكثر حدَّة ووضوحًا في وجه إيران؛ لكن الاعتماد الشديد، الزائد عن اللازم، على مصادر الطاقة الإيرانية ناهيك عن حجم التبادل التجاري، والاعتماد الاقتصادي على طهران، قد يؤدي في المحصلة حينها إلى إضعاف قدرة أنقرة على التعبير عن موقفها السياسي بشكل صدامي؛ وهو ما يعني تقليص قدرتها على المناورة وعلى القيام بإجراءات تضغط من خلالها على الجانب الإيراني، وهو الأمر الذي سيحتم عليها بالضرورة البحث عن وسائل أخرى.

3) تقويض أمن الطاقة

صحيح أن رفع العقوبات عن إيران سيؤدي إلى تحرير قطاع الطاقة لديها، وتصدير المزيد من النفط والغاز بما يؤمِّن لتركيا النفط والغاز بأسعار رخيصة، وصحيح أن موقع إيران حينها قد يؤثر على دور روسيا، ويقلِّص من حصتها المصدَّرة إلى المستهلكين في تركيا وأوروبا، ويساعد تركيا على أن تستفيد من التنافس بين الطرفين على تصدير المزيد من موارد الطاقة؛ لكن استيراد تركيا للمزيد من النفط والغاز الإيراني لا يساعد على إنجاح سياسة تنويع واردات الطاقة، وقد يُقَوِّض من أمن الطاقة التركي؛ خاصة إذا فشلت أنقرة في الخروج من دائرة الاعتماد على إيران وروسيا، وكذلك في إطلاق برنامجها النووي للطاقة السلمية، وهو البرنامج الذي فشلت في إطلاقه مرارًا وتكرارًا منذ السبعينات من القرن الماضي وذلك لأسباب مالية في الغالب.

خلاصة

الاتفاق قد يفتح مزيدًا من الفرص الاقتصادية أمام أنقرة؛ لكن الانفتاح على علاقات اقتصادية أوسع مع إيران مع بقاء التناقض في الأجندة السياسية الإقليمية للطرفين في ظل تحرر إيران من القيود والضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية؛ سيؤدي إلى تآكل التوازن في ميزان القوى لصالح إيران؛ إذا لم يطرأ أي تغيير على هذه المعادلة على المدى المتوسط والبعيد. هذا الوضع قد يترك أمام أنقرة واحدًا من ثلاثة خيارات:

- إمَّا أن يدفع أنقرة إلى تغيير أجندتها السياسية في المواضيع الإقليمية لتفادي الصدام مع إيران، والاستفادة القصوى من المكاسب الاقتصادية. 

- وإمَّا أنه سيدفعها إلى اللجوء لأدوار أخرى لإقناع إيران بتغيير سياساتها بالطرق الناعمة (كتأدية دور الوسيط أو المبادِر، أو زيادة الحوافز الاقتصادية، والاعتماد الاقتصادي المتبادل).

- أو سيدفعها إلى القيام بشبكة تحالفات ومصالح إقليمية لاحتواء إيران.

الاعتماد على أحد هذه الخيارات لن يتوقف على إرادة الجانب التركي وتصوراته لطبيعة العلاقة مع إيران فقط؛ بل على السياسات الإيرانية نفسها، وفي ظل انعدام وجود المعطيات الحاسمة الآن حول عدد من الأسئلة من قبيل: هل سيغير الاتفاق حال حصوله من سلوك إيران الخارجي على الصعيد الإقليمي؟ هل سيكون التغيير في حال حصوله نحو الأفضل (تعاونيًّا)، أو الأسوأ (توسعيًّا)؟ هل سيتم الالتزام بمضمون الاتفاق وتنفيذه بشكل كامل وشفاف؟ كيف ستنعكس حالة رفع العقوبات اقتصاديًّا وعسكريًّا عن إيران على وضعها الداخلي والإقليمي؟ سيكون القطع بالمسار الذي ستتبعه أنقرة صعبًا للغاية، وإن كان الترجيح يتراوح حتى الآن وفق المعطيات المتاحة بين الخيار الثاني والثالث، أو كليهما معًا.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس