شعبان عبد الرحمن - خاص ترك برس

عدنان مندريس هو رئيس الوزراء التركي (1899م – 1961م)، الذي عزم عقب  فوز حزبه في الانتخابات البرلمانية وتشكيله للحكومة عام 1950م، على استرداد قبس من هوية تركيا الإسلامية التي تم دفنها في التراب علي يد مصطفي كمال. قرر الرجل إعادة الأذان باللغة العربية، واستعادة المساجد التي تم تحويلها إلى مخازن، وأنشأ مساجد جديدة ومدارس للأئمة والخطباء، وتقارب مع العرب وتباعد عن الكيان الصهيوني، وكل ذلك كان محظورا في عهد مصطفى كمال وخليفته عصمت إينونو، فانقلب عليه الجيش وتم إعدامه مع اثنين من وزرائه في 17 أيلول/ سبتمبر عام 1961م بعد محاكمة صورية من المجلس العسكري.

وقد ظلت تفاصيل ما جرى يوم إعدامه في طي الكتمان ولم يعرف بها أحد طوال 54 عاما مضت لكن “مظفر إركان” (72 عاما) الضابط المسؤول عن عملية الإعدام، قرر أخيرا كسر جدار الصمت وكشف ما رآه بعينه عند أعواد المشانق لمندريس ووزيري خارجيته وماليته "زورلو" و"بولاطكان" فقرر التحدث مؤخرا لوسائل إعلام تركية.

يصف "إركان" جانبا من محاكمة مندريس قائلا: كان الدفتر والقلم لا يفارقان يده، وعندما كان يريد أن يفصح للمحكمة عن أمر ما كان يرفع يده مستأذنا للحديث، وكان المدّعي العام عمر إيجيسيل يصرخ في وجهه بكل فظاظة ويأمره بالجلوس وعدم التحدّث.

كان " إركان " واحدًا من الجنود الأربعة المسؤولين عن نقل مندريس واثنين من وزرائه "زورلو" و"بولاطكان" من جزيرة "ياسِّي أضا" إلى جزيرة "إمرالي" ليتم إعدامهم، كما أنه كان شاهدا على الأحداث التي جرت في ذلك اليوم الذي أُعدِم فيه رئيس وزراء ووزيرين منتخبين من الشعب. وكان دونا عن غيره من العساكر المرافقين إلى جزيرة إمرالي الباقي الوحيد علي قيد الحياة والذي ينقل تفاصيل تلك الذكرى بصورتها الحقيقية.

نترك إركان يروي ما جرى في ذلك قائلا: "تم اختياري من بين 120 عسكريا لأكون شاهدا على عملية الإعدام ولا زلت أتذكر تلك اللحظات المؤسفة... لم يمر علي يوم إلا وتذكرت ما جري في ذلك التاريخ، كل لحظة من حياتي تذكرني بأجسادهم المعلقة على حبل المشنقة، أراهم في أحلامي وكوابيسي وكأنهم لا يرغبون بأن يتركوني.

بعد إعدام الوزيرين بولاطكان وزورلو انتظرت مع باقي الجنود 45 دقيقة في جزيرة "إمرالي" ثم عدنا إلى جزيرة "ياسّي أضا" وفي الصباح الباكر قبل طلوع الشمس أمرني المدير المسؤول عن المحكومين بالإعدام بالذهاب مباشرة إلى غرفة احتجاز مندريس... كان مندريس لا يزال مرتديا ملابس نومه... كانت أول مرة التي أري فيها غرفة أحد المحكومين فلم يكن مسموحا للجنود رؤية غرف المحكومين... عندما خرج مندريس من غرفته أخبره أحد الضباط بأنه سيتم نقله لفحصه طبيا في إسطنبول ليتم بعد ذلك نقله إلى أنقرة ليرى عائلته وأولاده، لكن ذلك كله كان كذبا… يومها لم يسمح الطبيب بإعدامه لمرضه فلم يوقّع اللواء العسكري على أمر إعدامه قائلا إنهم لا يمكنهم إعدام رجل مريض، و بدلا من نقله إلى مشفى للعلاج تم إحضار طبيب بروفيسور من مشفى أوسكودار دينيز في إسطنبول لعلاجه.

حضر الطبيب ثم أخرج  من جيبه مرهما ووضعه على فتحات أنف مندريس التنفسية ولسانه حتى استعاد مندريس قوته، فوقّع اللواء العسكري بعد ذلك  قرار حكم الإعدام… قبل تنفيذ الحكم كان العسكري محمد بيليتش المسؤول عن تلبية احتياجات مندريس قد حضّر ملابس مندريس كاملة وألبسه تلك البدلة السوداء ذات الخطوط البيضاء وحذاءه الجلدي اللذين لم يُر مثلهما قبل ذلك في تركيا، وربط له ربطة عنقه فظن مندريس أنّه ذاهب إلى إسطنبول. لكن في هذه الأثناء أمر قائد الجزيرة العسكري بنقل مندريس مع طلوع الشمس إلى جزيرة "إمرالي" على السفينة العسكرية J15... كنّا ثلاثة ضباط وأربعة عساكر في قمرة السفينة، وكان الباشوات في قمرة قبطان السفينة وكان ممنوعا عليهم أن ينزلوا للقمرات السفلية التي تضم المحكومين. وكان عدنان مندريس يظن أنه سيذهب إلى إسطنبول ليتم الكشف الطبي عليه هناك.

عند وصول السفينة إلى الجزيرة كانت الطائرات والمروحيات تحلّق فوقها، وكان الجنود ممسكين بأسلحتهم على أهبة الاستعداد، وعند خروج مندريس انصعق من المشهد فقد وجد نفسه واقفا أمام الملازم ثاني كمال واليوزباشي إسماعيل سيدّال، وكان ما يزال لم يخط خطوة واحدة خارج السفينة، وإذ به يرى الملازم الثاني طغرل أيضا. وقبل أن تطأ قدمه الأرض كبّل إسماعيل سيدّال يدي مندريس، وأُرسله بمرافقة العسكر إلى غرفة الضيوف.

كنت واقفا أمام مندريس الذي لم يقل كلمة واحدة. ثم جاء المدّعي العام عمر ايجيسيل إلى الغرفة ليقرأ عليه حكم الإعدام قائلا: "انظر يا مندريس إلى أي حال وصلت الآن وها هو الآن يُقرأ على مسامعك حكم إعدامك"، لم يكن عليه أن يقول له هذه الكلمات احتراما لمنصبه كرئيس وزراء سابق على الأقل. ومع ذلك بقي مندريس منتظرا وصول قادة الجزيرة العسكريين، لمدة 45 دقيقة بهدوء وصمت... على الرغم من جميع المحاولات لإذلال مندريس قبل الإعدام من تحضير الملازمين كمال وطغرل لكفنه أمامه مباشرة، وسخرية طارق جورياي القائد العسكري للجزيرة حين قال له: "مع السلامة يا مندريس". هل يُقال "مع السلامة" لشخص ذاهب للموت؟! وأضاف جورياي ساخرا منه: "سامحني، خرجت منّي بالخطأ!". لكن مندريس حافظ على كرامته إلى آخر نفس.

كانت آخر كلمات مندريس هي: "كنت رئيسا للوزراء لمدة عشر سنوات، وسيكتب التاريخ إنجازات ثمان منها، وسنتين منها قضيتها في المجاملات الرسمية. لقد حلمت دائما أن أعلم ابني يوكسيل في مدارس الدولة، ليصبح قلمه يقطر ذهبا، لأجل ألا يكون أولادنا مثلنا ويعيشوا ما عشناه". (إن ما كُتِب في الجرائد والكتب والمواقع الإلكترونية عن كلمة مندريس الأخيرة من وداع لأهله وعائلته وشعبه ودولته وتمنّي حياة سعيدة لهم هي كلمات غير حقيقية وغير صحيحة).

قبل تنفيذ الحكم كان مندريس نصف ميّت بسبب مرضه، وعند صعوده لمنصة الإعدام كان جسده يرجف من الألم بسبب مرضه الشديد. حاول منفّذ الحكم مساعدته للصعود، لكنّهم أرادوا إذلاله فجرّوه إلى المنصّة جرّا من كتفيه. حتى أن حبة الدراق التي أكلها قبل الإعدام تقيّأها وملأت كفنه عند إعدامه.

كان الجلاد الذي نفذ الحكم في الثلاثينيات من عمره. اقترب من مندريس واضعا حبل المشنقة حول رقبته ثم قال وهو ينظر إلى حذاء مندريس: "إن هذا الحذاء سيكون لي بعد انتهاء الإعدام!". واستمرت عملية الإعدام خمسا وأربعين دقيقة، كانوا أربعة عساكر وضابطين برتبة ملازم ثاني ويوزباشي وجلّاد ومصوّر وأستاذ، وكان يقف في الخلف ثلاثة أو أربعة حرّاس، وقتها سأل الحراس الواقفين عن مكان الدفن فأشاروا إلى أنّه قد تم تحضير 66 قبرا قبل بداية الإعدامات بل وقبل المحاكمات.

حزنت كثيرا للحال الذي آل إليه مندريس، فلم أستطع وضع لقمة واحدة في فمي بعد إعدامه. ولم أستطع أن أنسى ولو للحظة واحدة ما رأيته بعيني فأصبحت أحداث ذلك اليوم وتلك المحاكمات والإعدامات تلاحقني في أحلامي وكوابيسي.

كان وزيرا "مندريس" حسن بولاطكان وزورلو قد سبقاه لحبل المشنقة. ففي الساعة الثانية فجرا وصل القرار بإعدام بولاطكان وزورلو فقط، وفي الساعة الثالثة فجرا أُخرِجَ حسن بولاطكان من غرفته. وكان عند منصة الإعدام الضابطان كمال وطغرل برتبة ملازم ثاني ومعهم اليوزباشي إسماعيل سيدّال، وكنّا نحن كضبّاط أمن من الدرجة الثانية نقف خلفهم. كان المكان ممتلئا بالعسكر بأزيائهم العسكرية. وتم تجهيز ثلاث منصات للإعدام، عند تنفيذ الحكم على بولاطكان تلا الضابط عليه جرائمه فقال: "وُجِد حسن بولاطكان متّهما بمخالفة القانون وبموجبه يتم تنفيذ قرار الإعدام"، ووضعوا حبل المشنقة حول رقبته، وسُئل عما إذا كانت لديه كلمات أخيرة ليقولها، فتحدّث وكان حديثه يوحي بأنه ما زال متمسِّكا بمبادئه السابقة ضد هؤلاء العسكر، وبينما كان يواصل حديثه قاطعوه وتم تنفيذ الإعدام . هذا المشهد من أبشع المشاهد التي رأيتها في حياتي. لم نكن ننظر لعملية الإعدام من أجل المتعة لكنّنا كنّا مجبرين على إبقاء رؤوسنا ثابتة، فإمالة النظرعن الإعدام كانت تُعَد جريمة، كنّا ننتظر انتهاء الإعدام وأيادينا ترتجف خوفا، فلم يكن الموجود على المنصة أحد البهائم لُيعدم بهذا الشكل، لقد أُعدِم بشكل غير إنساني أبدا".

يواصل إركان شهادته : "في تلك الليلة أخرج الحرّاس زورلو من غرفته ليتم أخذه إلى منصة الإعدام، فقد كانت غرف المحكومين قريبة جدا من منصة الإعدام، لكنهم لم يستطيعوا رؤية بعضهم البعض، فبين غرفة الإعدام وغرف المحكومين ممر وحائط فقط".

بالنسبة لزورلو فقد طلب الإذن ليتوضأ قبل الإعدام ويصلّي ركعتين على المنصّة. وصعدها بنفسه، حتّى أنه قال للجلاد إنه سيعلّق نفسه بنفسه ليكفّرعن أي ذنب قد يكون ارتكبه في الماضي. ولم يتكلّم بكلمة واحدة.  لقد أمسك لسانه داخل فمه. أشفقت علي حاله ولم أحتمل ذلك المشهد وبدأت بالبكاء".

عن الكاتب

شعبان عبد الرحمن

كاتب مصري – مدير تحرير مجلة المجتمع وجريدة الشعب - سابقاً


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس