د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

بعد فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية بتاريخ 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015م، كانت ردود الأفعال في الأوساط الرّسمية والإعلامية في الغرب عمومًا باهتة أو غير مرحّبة بحصول الحزب على الأغلبيّة البرلمانية. وربما كانت المستشارة الألمانية ميركل الوحيدة التي اتصلت برئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو للتّهنئة بالفوز. وقد تحدث سياسيون وإعلاميون كثيرون في أوروبا وأمريكا بأن الحزب فاز بسبب سياسة الترهيب والتخويف التي مارسها على المواطنين. وعندما قرأت تعليقات بعض الصحف الغربية على نتائج الانتخابات في تركيا واتهام الرّئيس أردوغان بالتوجه نحو الاستبداد رجعتْ بي الذّاكرة إلى ما قبل 100 عام تقريبًا لأجد أنّ الموقف نفسه كان حصل مع السّلطان عبد الحميد الثّاني ووصفه بــ"السّلطان الأحمر" لأنّه كان يحمل الأهداف نفسها؛ تقوية الحسّ الإسلامي والانفتاح على العالم العربي، وتحقيق إنجازات عملاقة ورفض تسليم فلسطين لليهود وغيرها.  

السّلطان عبد الحميد الثاني  وتقوية الحس الإسلامي

عندما وصل السّلطان عبد الحميد الثاني إلى السّلطة عام 1876م كانت الدّولة العثمانية على وشك الانهيار من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة، وكانت المؤامرات قد بدأت لتمزيق أوصلها بين "القبائل الغربيّة". وبعد سنتين فقط من ذلك أي في صيف عام 1878م عقد مؤتمر برلين، وهو المؤتمر الذي احتوى على بنود سرية لم تتضح إلا في وقت لاحق، وتنصّ على تقاسم أراضي الدولة العثمانية بين القوى الكُبرى ممثلة في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا آنذاك. أدرك السّلطان عبد الحميد حجم المخاطر التي تتهدد الدّولة فعقد العزم على إحباطها وكان سبيله في ذلك تقوية الحسّ الإسلامي والرابطة الإسلامية بين المسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وقد أطلق على هذا المشروع اسم "الجامعة الإسلامية"، وتم تكليف وفود من العلماء للسفر إلى أماكم كثيرة من العالم الإسلامي من الهند إلى الجزائر والمغرب وتونس من أجل نشر هذه الفكرة، ونشر الوعي بضرورة الرجوع إلى منابع الدين الإسلامي الذي يحث على التعاون والوحدة. ووجدت هذه الفكرة لها أنصارًا كثيرين في البلاد العربية وغير العربية.

السّلطان عبد الحميد الثّاني  والمشاريع العملاقة

في عهد السلطان عبد الحميد الثاني تم إنجاز مشاريع ضخمة جدا إذا قيست بإمكانيات ذلك الوقت، ومن بين أهم تلك المشاريع مشروع "سكة حديد الحجاز" التي تنطلق من دمشق إلى المدينة المنورة ويبلغ طولها 1320 كلم. وكان الهدف من إنجاز هذا المشروع ربط مناطق الدولة بعضها ببَعض وتيسير عملية أداء فريضة الحج،  وسرعة الوصول إلى الأماكن التي تحدث فيها قلاقل وبسط الأمن وتزويد المناطق الواقعة في الجزيرة العربية وما جاورها بما تحتاجه من الغذاء.  كان مشروعا طموحًا في ظروف بيئية قاسية.

أصبحت الرّحلة تستغرق 5 أيام من دمشق إلى المدينة المنورة بدل شهور، وتمّ تأمين تكاليف المشروع من خزينة السّلطان الخاصة ومن التبرّعات التي جمعها المسلمون في كل مكان. ومن أهمّ المشاريع التي كان يعتزم السلطان عبد الحميد تحقيقها تشييد جسر يربط بين طرفي مضيق البُوسفور. وقد تم إعداد مخطط المشروع، وتوجد صورة له بالأرشيف العثماني وتفاصيل عنه، غير أنه لم يتسنّ تنفيذه لأن الاتحاديين مكروا له وأزاحُوه من السّلطة.

السّلطان عبد الحميد الثّاني والموقف من فلسطين

تكشف المصادر التّاريخية أن السلطان عبد الحميد الثاني كان على علم بالمخططات الصّهيونية تجاه فلسطين منذ 1882 بعد أن شرعت الجماعات اليهودية بعقد اجتماعات سرية في بعض الدّول الأوروبية وفي روسيا القيصرية، من أجل تأسيس دولة يهوديّة تجمعهم في فلسطين. وكان المُحرك الأساسي لهذه المؤتمرات المفكر اليهودي ثيودور هرتزل.

وقد التقى هرتزل بالسلطان عبد الحميد وطح عليه موضوع هجرة اليهود إلى فلسطين فردّ عليه عبد الحميد بالقول "لا أستطيع بيع حتى ولو شبر واحد من هذه الأرض، لأنّ هذه الأرض ليست ملكًا لشخصي بل هي ملكٌ للدولة العثمانية، نحن ما أخذنا هذه الأراضي إلا بإراقة الدّماء والقوّة ولن نسلمها لأحد إلا بإراقة الدّماء".

فموقف السلطان عبد الحميد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين كان واضحا ومبدئيا، ولذلك كثرت المؤامرات ضده ، وبلغت حد محاولة اغتياله في سنة 1905م، لكن المحاولة باءت بالفشل. بسبب مواقفه هذه وغيرها شعر الغرب أن الخطوات التي يقوم بها السّلطان عبد الحميد يمكن أن تبعث الحياة من جديد في جسد الأمّة الإسلاميّة المريض. ولذلك نشطت المساعي داخليا وخارجيا من أجل الإطاحة به وتم وصفه بجميع الأوصاف مثل "السلطان الأحمر" و"المستبدّ" و"الطّاغية"  وامتلأت الصحف الغربية برسوم الكاريكاتور السّاخرة لتنفير النّاس منه.

الرّئيس أردوغان وتكرار السّيناريو نفسه

واليوم عندما نلقي نظرة خاطفة على ما تحقّق في تركيا من إنجازات بعد 13 عاما من حكم حزب العادلة والتنمية الذي أسّسه رجب طيب أردوغان نجد تشابها كبيرًا بين أهداف كلّ من السّلطان قبل 100 عام وأردوغان الآن.  فالخُطوط الكبرى لسياسة أردوغان شبيهة تماما بما كان فعله السّلطان عبد الحميد الثاني؛

الاهتمام بالهوية الإسلامية للدّولة: وتتمثل في توسيع التّعليم الديني والتشجيع عليه، وإقامة مسابقات القرآن الكريم، وإدخال اللغة العربية والعثمانية إلى المدارس الثانويّة، ورفع المنع الذي كان مضروبا على الزّي الإسلامي في البلاد، وترميم جميع المساجد في تركيا، وكذلك في بعض المناطق التي كانت تابعة للدولة العثمانية في البلقان وغيرها.

توثيق العلاقات مع العالم العربي:  وتتمثل في رفع التأشيرة عن أغلب الدول العربية، رفع  التبادل التجاري والتعاملات الاقتصادية مع الدولة العربية، وعقد اتفاقيات إستراتيجية مع دول عربية، واستقبال أعداد هائلة من الطلاب العرب في الجامعات التركية وتسهيل تسجيلهم في الجامعات التركية، وإيواء مئات الآلاف من اللاجئين السّوريين في خطوة تضامن غير مسبوقة مع شعب مسلم ومنحهم جميع الحقوق التي يتمتع بها المواطن التّركي.

إنجاز مشاريع عملاقة

من بين المشاريع العظمى التي تحققت وتتحقق في تركيا اليوم فتح نفق تحت مضيق البُوسفور يربط طرفي اسطنبول الآسيوي والأوربي بعضهما ببعض، بحيث اختصرت المسافة من ساعة أو ساعات لتُصبح نحو ربع ساعة فقط،  والعمل جارٍ الآن لبناء لحفر نفقٍ ثان للسّيارات والقطارات والمترو متكوّن من ثلاثة طوابق تحت البوسفور، وتشييد جسرين على مضيق البُوسفور أطلق على أحدهما "جسر السّلطان سليم"،  وتشييد ثالث أكبر مطار في العالم في مدينة اسطنبول، وعشرات المطارات وخطوط الحديد السّريعة داخل البلاد وغيرها من الإنجازات الكثيرة.  هذا بالإضافة إلى النهضة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وتوجّه تركيا للاكتفاء ذاتيا حتى من الصناعات الحربيّة، وتخلّصها من الديون التي كانت تأسرها مع صندوق النقد الدولي والبنك الدّولي.

الغرب وأردوغان "المستبدّ"

الملاحظ أنّ الموقف الرّسمي والإعلامي الغربي مناهض لتركيا ولهذه السياسة التي جعلت من تركيا دولة محوريّة ومؤثرة في المنطقة، وتمتلك واحدًا من أقوى اقتصاديات العالم. وأصبحت تعتمد على قدراتها الذاتية في الصناعات المدنية والحربيّة. كما أنّ الموقف التركي من القضية الفلسطينية موقف مبدئي وهو السبب في توتر العلاقات مع إسرائيل منذ عام 2009 حتى اليوم. وبعد ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة قالت بعض وسائل الإعلام الغربية إن أردوغان أخذ ينزلق بتركيا نحو حكم الحزب الواحد، ولا يريد أن يتنازل عن السّلطة.

لاشك أن كثيرا من الأوساط الغربية كانت تأمل في أن تدخل تركيا في مرحلة من عدم الاستقرار، وتعود إلى حالة التدهور السّياسي، بحيث تتشكل حكومات ائتلافية ضعيفة تجرّ البلاد إلى عدم استقرار اقتصادي وأمني فيسهل الاختراق، ويسهل معه تنفيذ الأجندات وأهمها تقسيم البلاد وإدخالها في فوضى مثلما هو الأمر في كلّ من سوريا والعراق واليمن وليبيا.

ما تعلّمناه من دروس التاريخ أنّ الغرب لا يريد لأية دولة إسلامية أن تنهض وتستقل بنفسها، فهذا يزعجهم.وأسوأ شيء عندهم أن تتكون "الدّولة الإسلامية النموذج"، حرية وديمقراطية وعدالة ونهضة شاملة. فالعدوى تنتقل بسرعة بعد ذلك إلى الدّولة العربية والإسلامية الأخرى. وهم يريدون للعالم الإسلامي أن يبقى في نوم وسُبات. وعندما لم يجدوا أية ملاحظات على الانتخابات التي حدثت في تركيا قالوا إنّها جرت تحت التهديد والتخويف والتّرهيب. شيء لا يمكن تصديقه لأنه إذا كان يحق لأحد أن يخاف فهم الأكراد أنفسهم، بينما صوت قسم كبير منهم لحزب الرئيس أردوغان، ومنحوه ثقتهم لتشكيل الحكومة بمفرده. فهل إذا عرف الشّعب أن استقرار بلاده ونهضتها مع حكم العدالة والتنمية يُصبح ذلك مدعاةً للاتهام والتشكيك ؟ الغرب يألم عندما يفرح المُسلمون بأي إنجاز، ويفرح عندما يألم المسلمون ويراهم في جهل ومرض وتقاتل. هكذا هو في الماضي وهو كذلك في الحاضر.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس