إبراهيم كالن - هافينغتون بوست عربي

منحت انتخابات الأول من نوفمبر/تشرين الثاني التي انعقدت في تركيا حزب العدالة والتنمية انتصاراً مدوياً، حيث حصل الحزب على نسبة 49.4 %من الأصوات وحظي بأغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة. وقد صوتت الأغلبية الساحقة من جمهور الناخبين لصالح الاستقرار واختارت تعزيز المركز السياسي لحزب العدالة والتنمية. وقد مني الحزبان القوميان الكردستاني والتركي بأكبر الخسائر، حيث رفض الشعب سياستهما القائمة على الاستبعاد والمواجهة. وظل حزب الشعب الجمهوري، الذي يمثل المعارضة الرئيسية، مستقراً ولكنه سوف يتعرض للانتقادات الشديدة نظرا لتبديد فرصة هائلة لتوسيع قاعدة انتشاره.

تحظى تبعات هذه النتائج بأهمية بالغة وسوف تؤدي إلى إعادة صياغة مستقبل السياسة التركية خلال الأعوام القادمة. يشير فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات بنسبة 49.4 % إلى أن الحزب قد استوعب نتائج انتخابات 7 يونيو/حزيران بصورة أكثر دقة من الأحزاب الأخرى وأجرى التعديلات اللازمة لاستعادة قاعدة ناخبيه السابقة من الأكراد والشباب والأتراك المحافظين - القوميين. وعند متابعة الأوضاع خلال الشهور الخمس فيما بين الانتخابات، يمكن القول أن حزب العدالة والتنمية هو الحزب الذي قام بإجراء تعديل فعلي ضمن قائمة مرشحيه ووعوده الانتخابية ورسالاته ورؤيته المستقبلية.

وقد رفض الناخبون أيضاً سياسة التحالفات بعد انقضاء خمسة شهور من المناورات والمشاحنات السياسية. ويبدو أن ذلك يتوافق مع خبراتهم السابقة حول إخفاق الحكومات الائتلافية في تركيا. وقد أدى التحالف الأخير فيما بين عامي 1999-2001 بالبلاد إلى حافة الإفلاس. وفي هذا الصدد، تعد هذه نتيجة جيدة، حيث تحتاج تركيا إلى حكومة مستقرة وقوية كي تتعامل بفعالية مع قضايا مثل النمو الاقتصادي المستدام وحزب العمال الكردستاني وإرهاب تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) والاستقطاب السياسي والحرب السورية وأزمة اللاجئين.

يتعين على حزب العدالة والتنمية أن يعي نتائج الانتخابات إقراراً منه بالالتزام بتحقيق الشمولية والاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي. وينبغي أن يواصل الحفاظ على روح الإصلاح التي جاءت به إلى السلطة واحتفظت له بها على مدار الـ13 عاماً السابقة. وخلال كلمته بمناسبة فوز الحزب بالانتخابات، ذكر أحمد داوودأوغلو، بصفته رئيساً للوزراء، أن الحكومة سوف تعمل لصالح جميع المواطنين الأتراك وتضم أعضاءً من كافة فئات المجتمع. ويعد ذلك أمراً هاماً في سياق استعادة وتعزيز مكانة الحزب على الساحة السياسية في تركيا.

سيستغرق تشكيل الحكومة الجديدة عدة أسابيع، بيد أن هناك ثلاث قضايا تستوجب اهتماماً فورياً. وتتمثل القضية الأولى في التهديد الذي يمثله حزب العمال الكردستاني الذي يظل مصدر قلق في الوقت الحالي على غرار ما كان عليه الحال قبل انعقاد الانتخابات.

ورغم أن العديدين يلومون حزب العمال الكردستاني على إخفاق حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات، يمكن أن يقوم حزب العمال الكردستاني بتصعيد العنف مرة أخرى من أجل تعزيز قاعدته من المتشددين وفرض عقوبة على حزب الشعوب الديمقراطي.

تود أغلبية الشعب، بما في ذلك العديد من الأكراد في شرق وجنوب شرقي البلاد، أن تواصل الحكومة اتخاذ تدابير أمنية صارمة ضد حزب العمال الكردستاني وأعضائه في المناطق الحضرية. وفي هذه المرحلة، يعتمد مستقبل عملية التصالح/ السلام على قرار حزب العمال الكردستاني بنزع السلاح وترك العملية السياسية تمضي قدماً. وقد بدد حزب العمال الكردستاني فرصة تاريخية منذ عام 2013 حينما اتخذت عملية التصالح/ السلام منعطفاً خطيراً من خلال دعوة عبد الله أوجلان للحزب بنزع السلاح. وبدلا من أن يسمح الحزب للعملية السياسية بالمضي قدماً، رفض نزع السلاح وحشد المزيد من الأسلحة داخل المدن وقام بتنفيذ العديد من الهجمات على المدنيين وقوات الأمن على مدار العام الماضي. وكان لذلك تأثير كبير على الشرعية السياسية لحزب الشعوب الديمقراطي وأي دور محتمل يمكن أن تلعبه.

ويتمثل التهديد الثاني في تنظيم داعش على امتداد الحدود التركية السورية. وتعد تركيا عضواً بالتحالف الدولي المناهض للتنظيم وقد أصابت أهدافاً له مرات عديدة على مدار الأسابيع القليلة الماضية. ونتيجة لذلك، أصبحت تركيا هدفاً محتملاً لهجمات التنظيم. وقد يخطط إرهابيوه هجمات جديدة داخل تركيا و/أو على امتداد الأقاليم الحدودية. وتظل تركيا حازمة في صراعها ضد تهديد داعش، على حد تعبير الرئيس رجب طيب أردوغان من قبل.

ونظراً لأن الحرب في سوريا تضم في الوقت الحالي كافة الأطراف الرئيسية تقريباً، بدءاً من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وتركيا وانتهاءً بروسيا وإيران، فلابد أن يحظى إنهاء الحرب في سوريا وإزاحة نظام بشار الأسد والقضاء على داعش بالأولوية على التحزب السياسي.

وتتمثل القضية الثالثة في الاقتصاد. فلم تكن الانتخابات والشكوك السياسية أو حالة عدم اليقين السياسي على مدار الشهور الستة الماضية في صالح الاقتصاد، وخاصة في ظل انخفاض معدل النمو العالمي في كل من أوروبا والشرق الأوسط. وتؤثر الحرب في سوريا والتحديات الأمنية في العراق على الأنشطة التجارية المحلية والتجارة الإقليمية. ورغم صمود الاقتصاد التركي خلال هذه الفترة، إلا أن تركيا تحتاج إلى زيادة معدل النمو السنوي بأكثر من 3 % لتحقيق أهدافها الاقتصادية بحلول الذكري المئوية لإقامة الجمهورية في عام 2023.

ويتمثل أكبر المخفقين في الانتخابات في حزب الحركة القومية التركي وحزب الشعوب الديمقراطي اليساري القومي الكردستاني. فقد خسر حزب الحركة القومية 40 مقعداً، ببنما خسر حزب الشعوب الديمقراطي 21 مقعداً، حيث خسر الحزبان مجتمعين عدداً غير مسبوق من الأصوات بلغ 3 مليون صوتا. ومن الواضح أن الناخبون قد رفضوا نمطين من القومية التي تناصب فئات مختلفة من المجتمع التركي العداء وتمنح الأولوية لسياسة الهوية مقابل استبعاد القضايا الرئيسية الأخرى. ولم تحظ أي من القومية اليمينية أو اليسارية المتطرفة بفرصة التجذر في دولة متنوعة القوميات مثل تركيا.

يرجع إخفاق حزب الحركة القومية في الأغلب إلى أسلوبه المناهض في أعقاب انتخابات 7 يونيو/حزيران. فقد حاول الحزب الاستفادة من الرفض الكامل لعملية التصالح/ السلام ولكنه أخفق في تقديم أي بدائل. وعاد الناخبون المحافظون القوميون المعتدلون، الذين كانوا قد انتقلوا إلى حزب الحركة القومية في شهر يونيو/حزيران، إلى حزب العدالة والتنمية مرة أخرى.

كان إخفاق حزب الحركة القومية متوقعاً، حيث لم يتبني موقفاً واضحاً على الإطلاق ضد حزب العدالة والتنمية. وبدلا من أن يتقدم نحو مركز الساحة السياسية، فقد انشغل في تبرئة ساحة حزب العدالة والتنمية من الاتهام بممارسة الإرهاب، بل وتعظيم دوره. وانقلب كل من الناخبين الأكراد وغير الأكراد على حزب الحركة القومية لإخفاقه في مواجهة العنف الذي يمارسه حزب العدالة والتنمية وبذل جهود حقيقية لمواصلة عملية التصالح/ السلام. واتضح أن حزب الحركة القومية، الذي يزعم أنه حزب جميع الأتراك، خاويا واخفقت استراتيجيته في مناهضة إردوغان إلى حد كبير. وطالما يظل حزب الحركة القومية في مرمى أسلحة حزب العدالة والتنمية، فلن يتمكن من الاضطلاع بأي دور سياسي جاد.
وفي حال هزيمة حزب الحركة القومية، تخفق أيضا الدوائر الليبرالية اليسارية التي تزعم معرفة الشعب بصورة أفضل من الشعب ذاته. فقد اتضح أن نطاق نفوذها المتوقع محدوداً وأن توصيفها للقضايا الفعلية للشعب يجانبه الصواب. فقد أتت حملتها الخبيثة المناهضة لإردوغان بنتائج عكسية وأساءت استيعاب وتفهم المخاوف الفعلية للمواطن العادي، مما أثبت انعزالها الكامل عن المجتمع.

وقد أخفقت وسائل الإعلام الدولية أيضاً في استيعاب الديناميكيات الاجتماعية والسياسية لتركيا ككل بالصورة الملائمة. ويدرك المرء من خلال قراءة معظم تقارير الإعلام الأجنبي والتعليقات السياسية الأجنبية خلال الشهور الأخيرة أنه من الحتمي أن يخفق حزب العدالة والتنمية ويخفق معه الرئيس أردوغان. فقد ضللت تلك الوسائل الإعلامية قرائها بشأن دولة هامة مثل تركيا أثناء وجود تحديات إقليمية كبرى، من خلال الخلط بين الأمنيات الشخصية وإعداد التقارير غير المنحازة. فقد كانت تحليلاتها لما بعد الانتخابات مغلوطة على غرار توقعاتها في مرحلة ما قبل الانتخابات.

كلمة أخيرة حول موقع الرئيس إردوغان في هذه الانتخابات.

أرادت أحزاب المعارضة ومؤيدوها في وسائل الإعلام القومية والدولية تحويل هذه الانتخابات إلى استفتاء على إردوغان. وقد سعت من خلال المزاعم الهمجية والاتهامات التي لا أساس لها من الصحة إلى تصوير الأمر على أنه انتخابات حاسمة ودعت الناخبين الأتراك إلى عدم التصويت له كما لو كان مرشحاً بتلك الانتخابات (والحقيقة أنه لم يكن مرشحاً). وقد اتضح أن كل تلك المساعي مغلوطة ومضللة. وحينما يقرأ المرء عن الرئيس إردوغان والسياسة التركية في وسائل الإعلام تلك، لابد ان يتذكر حجم الأخطاء التي اقترفتها في الماضي بشأن المجتمع التركي والسياسة التركية.

تؤكد انتخابات الأول من نوفمبر/تشرين الثاني مدى قوة ومرونة الديمقراطية في تركيا. فقد منح الناخبون الأتراك، من خلال البرلمان الجديد ومن خلال واحدة من أعلى نسب التمثيل في البلاد، الأحزاب السياسية تفويضاً جديداً للتعامل مع القضايا الفعلية بأساليب واقعية، بدلاً من فرض أوهامها وأهوائها على الشعب. فلنأمل أن تحقق هذه النتائج الاستقرار وتحد من الضغوط التي يواجهها كافة المواطنين الأتراك.

عن الكاتب

إبراهيم كالن

الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس