أحمد البرعي - خاص ترك برس

نامت غزة تترقب قدوم أسطول الحرية الذي سيكسر حصار المحتلين، ويشد من أزر المرابطين الصابرين، واستيقظ أهل القطاع المحاصر فجر الواحد والثلاثين من مايو/ أيار 2010 على أنباء مذبحة نفذتها قوات الاحتلال الصهيوني بحق المتضامنين السلميين القادمين على متن "سفينة مرمرة" التركية.

توقفت كثيرا عند هذه الحادثة، وكثيراً ما سألت نفسي، يا ترى لماذا كان كل شهداء مجزرة أسطول الحرية العشرة – استشهد العاشر قريبًا - أتراكا مع أن السفينة كانت تقل 750 ناشطًا من أكثر من 50 دولة وجنسية مختلفة؟!

قد يُرجع البعض ذلك إلى الشجاعة المتهورة التي يوصف بها الأتراك، وقد يراها البعض أقدامًا وتضحية وحبًا في الشهادة من أجل مقدسات المسلمين ومسراهم المغتصب، بينما يفسرها آخرون على أنها رجولة وحمية ودفاع عن النفس وعدم الرضوخ للمعتدي.

ظن الناس وقتها أن الجيوش العثمانية ستزحف ثأرًا لشهدائها، وستمحو اسم الكيان السرطاني الطفيلي عن خريطة أرض الإسراء والمعراج، قال الناس إن أسطولًا ثانيًا سيأتي لزيارة غزة تصحبه قطع البحرية التركية، ولن تستطيع إسرائيل ولا بوارجها الحربية أن تعترض ذلك الأسطول. ولكن ذلك لم يحدث، واتُهم أردوغان بالبراغماتية المنفعية والعنتريات الفارغة وتغليب لغة الاقتصاد والدبلوماسية على دماء أبناء وطنه الذي ارتقوا شهداء بأيدي المحتلين الغاصبين.

في صبيحة يوم المذبحة ألقى أردوغان خطابًا ناريًا أمام أبناء حزبه وتوعد المعتدي برد قاس وقال "إن ما فعلته إسرائيل يستوجب ردًا قاسيًا، ولكن تركيا بعراقتها وحجمها لن تتحرك خارج القانون، وسترد بما يليق بها وبتاريخها، ولكني أقول: يجب أن لا يمتحن الجميع صبر وصداقة تركيا، فكما أننا مخلصون في صداقتنا ومحبتنا فإن عداوتنا وغضبنا لا يحتمله هؤلاء الصغار الحقراء."

اتهمته صحف المعارضة التركية وبعض الصحف العربية آنذاك بالاستعراض والرقص على دماء الأبرياء ووصفت خطابه الناري الشهير بأنه لا يعدو كونه "عنترية أردوغانية" لا تسمن ولا تغني من جوع. ولكن الأيام أثبتت كيف أرغمت تلك "العنترية" إسرائيل لأول مرة في تاريخها أن تقدم اعتذارًا رسميا لأهالي الشهداء، بل وأن تدفع لهم تعويضًا - رفضوا أن يستلموه قبل أن يرفع الحصار عن قطاع غزة المحاصرة - وهو الشرط الثالث الذي وضعته الحكومة التركية لاعادة العلاقات مع الكيان الصهيوني إلى ما كانت عليه قبل حادثة اسطول الحرية.

وبالأمس القريب، جاءت الأنباء عن اسقاط سلاح الجو التركي طائرة روسية اخترقت أجواء الأراضي التركية فقُتل أحد الطيارين بينما لا يزال مصير الآخر مجهولًا، وهناك أنباء تفيد بأنه قد وقع في أيدي الثوار في الأراضي السورية. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يسقط فيها سلاح الجو التركي طائرات انتهكت مجاله الجوي فقد أسقطت تركيا طائرة عسكرية سورية في مايو/ أيار من هذا العام، ولكن هذه المرة جاء الأمر مختلفًا تمامًا، فطبيعة وتوقيت اسقاط الطائرة يحمل دلالات وإشارات عديدة، وكذلك فإ ن ردود الفعل التي أعقبت اسقاط الطائرة ترسل رسائل واضحة.

كانت التصريحات الروسية حادة وهائجة فقد بادر وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" بالغاء زيارة كانت مقررة إلى تركيا، كما ودعا مواطنيه أيضًا إلى عدم السفر إلى تركيا، إذ إن السفر إليها، على حد زعمه، قد يشكل تهديدًا لا يقل عن ذلك الذي في صحراء سيناء على حياة المواطنين الروس. دفعت صدمة الحادثة وزير الخارجية الروسي المخضرم إلى الخروج عن لباقته الدبلوماسية، واصدار تصريحات سريعة مرتبكة، عاد بعد ذلك ليتدارك بعضها ولكن الإرباك كان واضحًا جدًا عليه وعلى رئيسه "فلاديمير بوتن" الذي دعا "الكرملن" للانعقاد وصرح بأن ما قامت به تركيا طعنة في الظهر وأنه لن يمر دون رد مناسب في المكان والزمان المناسبين!! فقامت روسيا مباشرة بنشر أكبر منظومة صواريخ أس 400 للدفاع الجوي في محافظة اللاذقية السورية وأرسلت أيضًا قطعا وبوارج بحرية.

استدعت الدبلوماسية التركية فورًا سفراء الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا بغية تزويدهم بآخر التطورات في ملف إسقاط الطائرة، فجاء اتصال الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" سريعًا مؤكدًا على حق تركيا في الرد على أي انتهاء لمجالها الجوي، وداعيًا في الوقت ذاته إلى ضرورة ضبط النفس وتهدئة الأوضاع. يأتي ذلك تزامنا مع طلب تركي لعقد اجتماع استثنائي طارئ لحلف الشمال الأطلسي "الناتو" عقب إسقاط الطائرة.

وفي ذات الوقت اشتغلت الماكنة الإعلامية التركية محليًا على اطلاع الناس على أدق تفاصيل العملية، بل وبث رسائل التحذير المسجلة التي وجهها سلاح الجو التركي لأكثر من عشر مرات في خمس دقائق للطائرة قبل اسقاطها. كانت السياسة الإعلامية الناجحة عاملًا فاعلًا أدى بدوره إلى اصطفاف واضح خلف القرار السيادي التركي بحماية أجوائه وأراضه والدفاع عنها، ما جعل أيضًا زعماء المعارضة يجدون أنفسهم مضطرين ومرغمين على الاصطفاف خلف تصريحات الحكومة ورئيس الجمهورية، رغم بعض الأصوات الشاذة منهم التي تغرد قائلة "ليس هكذا تدار البلاد، هذا التهور والرعونه السياسية، سيؤدي إلى عواقب وخيمة" وآخرون يغردون بأن أردوغان وقع في شر أعماله وارتكب خطأً سيورده المهالك، وسيقضي على مستقبله السياسي، فأخرجوا سواد قلوبهم وحقدهم الأعمى الذي يتمنى ويرحب بالدمار لبلده إن كان فيه دمار الطيب أردوغان!!

عُرفت عن العثمانيين قديما إحدى التقنيات العسكرية للدفاع عن النفس أسموها (Osmanli Tokati) أو "الصفعة العثمانية" وهي صفعة تؤدي، من شدتها وقوتها، إلى الموت المباشر للعدو. لم يكن الرد التركي تهورًا ولا استدعاء للحرب وإنما كان "صفعة عثمانية" على وجه العنجهية الروسية في المنطقة، أجاد فيها أبناء السلطان الفاتح التوقيت والتدبير والترتيب، ويأبى القدر إلى أن تأتي هذه الحادثة بعد أيام قلائل من سقوط أو اسقاط طائرة روسية في الأراضي المصرية، ليرى الأعمى ويبصر المتعامي البون الشاسع بين أداء وشموخ من اختاره شعبه واصطف خلفه، وبين من جاء غدرًا وخيانة فجعل من بلده مرتعًا وملعبًا للشرق وللغرب.

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس