علي حسين باكير - صحيفة العرب القطرية

في كلمته الأسبوعية أمام كتلته النيابية في البرلمان التركي، قال رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو إن تركيا تستهجن قيام روسيا بتطبيق عدة عقوبات اقتصادية وتجارية على تركيا خاصة أنها تعبر عن تناقض كبير بين رفض موسكو للعقوبات التي فرضت عليها من الغرب في حين أنها تلجأ إلى فرض عقوبات على تركيا، مضيفا أن تركيا ليست دولة يمكن إدخالها في موقف صعب بسهولة، وأنها الآن تتخذ التدابير اللازمة وتعد خططنا البديلة، وأن تركيا ستفرض عقوبات على روسيا في حال لزم الأمر.

أثارت هذه التصريحات تساؤلات عديدة حول طبيعة فحواها والمقصود منها وماهية الإجراءات التي ستتخذها تركيا ردا على العقوبات الروسية وعما إذا كانت تعبيرا عن تخلي تركيا عن سياساتها لاحتواء الأزمة واستبدالها بسياسات تهدف إلى مواجهة التصعيد بتصعيد مماثل.

باعتقادي الشخصي، يمكن فهم تصريح رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو على أنه محاولة لثني موسكو عن اتخاذ المزيد من الإجراءات التي من شأنها أن تصعد من الأزمة وتوسع من نطاقها أكثر من كونه تعبيرا عن رغبة تركيا في تصعيد الأزمة من جانبها، لكن لا شك أن التصريح نفسه يؤكد لموسكو أيضا أن أنقرة تمتلك من الأوراق ما يخولها أن تتخذ إجراءات أو أن تفرض عقوبات على موسكو إذا ما قررت المضي قدما في هذا المسار حتى النهاية، خاصة أن الأخيرة ليست راغبة على ما يبدو في الاحتكام إلى العقل والتعامل مع الموضوع بنضج بدليل التصعيد الأخير الذي حصل يوم الأحد الماضي عندما أطلقت سفينة حربية روسية طلقات تحذيرية على سفينة صيد تركية في بحر إيجة.

من المعروف أنه وبغض النظر عن شكل العقوبات أو نوعها أو القطاعات المستهدفة بها أو الجهة التي تفرضها سواء أكانت روسيا أو تركيا، فإن الطرفين سيتضرران من دون شك على اعتبار أن هذا السلاح هو سلاح ذو حدين. عندما فرضت موسكو عقوبات اقتصادية على أنقرة، اختارت بشكل دقيق جدا بعض القطاعات التي يؤدي فرض العقوبات عليها إلى أكبر ضرر ممكن على تركيا مع أقل ضرر ممكن على موسكو، هو الأمر الذي باستطاعة أنقرة أن تلجأ إلى مثله عبر استهداف القطاعات الأكثر أهمية بالنسبة إلى موسكو أي الطاقة والحبوب.

ومن الملاحظ أن العقوبات الروسية لم تشمل قطاعات هامة لموسكو مثل الطاقة (الغاز والنفط) والإنشاءات والمقاولات، والاستثمار، ذلك أن وضع عقوبات على هذه القطاعات ستكون له نتائج سلبية على موسكو أكبر بكثير من النتائج السلبية على أنقرة. ولعل هذا هو بالضبط المدخل الذي تتحدث عنه تركيا بخصوص الإجراءات والعقوبات التي من المحتمل أن تتخذها ضد روسيا إذا اقتضى الأمر ذلك في المرحلة القادمة.

في مجال الطاقة، تعد تركيا ثاني أكبر مستورد للغاز الروسي بعد ألمانيا، وتحتل روسيا المرتبة الأولى لناحية تلبية حاجات تركيا من الطاقة المستوردة، إذ تشكل واردات الغاز الروسي وحدها حوالي %57 من حاجات أنقرة من الغاز. في العام 2014، بلغت فاتورة واردات الطاقة التركية من روسيا فقط حوالي 17 مليار دولار، ما يقارب 8.5 مليار منها فاتورة واردات الغاز أي ما يوازي حوالي %19 من عائدات شركة غاز بروم لذلك العام.

خلال الأيام القليلة الماضية، عملت تركيا جديا على دراسة تقليص اعتمادها على الغاز الروسي إذا اقتضى الأمر بنسب تتراوح بين 25 إلى %35 ناهيك عن تخفيض واردات النفط منها أيضاً، وقد خاضت من أجل ذلك محادثات مع عدد من الدول الرائدة في تصدير الغاز لاسيما قطر وأذربيجان مع إمكانية لرفع واردات الغاز من دول أخرى كتركمانستان والجزائر ونيجيريا وحتى الولايات المتحدة.

إذا ما خفضت تركيا فعلا مستقبلا واردات الطاقة الروسية بهذه النسبة، فسيشكل ذلك ضربة لا يستهان بها للجانب الروسي قد تكلفه حوالي 6 مليارات دولار، لاسيما في ظل الانخفاض المستمر لأسعار الطاقة وفي ظل حالة الركود والتضخم التي يعاني منها الاقتصاد الروسي.

وفي الوقت الذي سيكون بإمكان تركيا البحث عن مصادر أخرى لتسويق منتجاتها من الخضر والفواكه، سيكون من الصعب على روسيا أن تجد أسواقا بديلة لاستهلاك هذه الكميات الكبيرة من الغاز والنفط في ظل حالة الركود العالمية واستمرار العقوبات الأوروبية والأميركية.

وما ينطبق على الغاز ينطبق أيضا على قطاع الحبوب، إذ تعتبر تركيا أكبر مستورد للقمح من روسيا، وسيكون بإمكانها تخفيض استيراد القمح من موسكو والبحث عن مصدر بديل. أما في قطاع الاستثمار، فيبلغ حجم الاستثمار الروسي في مفاعل أكويو النووي في تركيا حوالي 20 مليار دولار، ومن الممكن أيضاً فرض قيود على العاملين الروس في تركيا أو ربما فرض ضرائب عليهم أو اتخاذ إجراءات مراجعة لنوعية الواردات الروسية والتضييق على السفن الروسية التي تمر في المضايق التركية والتدقيق في حمولاتها أو في أوراقها أو زيادة الضرائب عليها بما يؤدي في النهاية إلى عرقلة عملها وخساراتها لكثير من الأموال.

يبقى الإجراء الأكثر تطرفا والذي من الممكن لتركيا أن تلجأ إليه هو إغلاق المضايق التركية (البسفور والدردنيل) في وجه روسيا وعزلها عن المياه الدافئة عسكريا وتجاريا، وهو إجراء ممكن وفق مواد معاهدة مونترو التي تنظم الملاحة وحركة العبور من المضايق التركية لاسيما وفق المادة 20 والمادة 21 من الاتفاقية التي تنص صراحة على أنه يعود لتركيا وحدها عند شعورها بأنها مهددة بشكل حقيقي بحرب أن تسمح أو تمنع للقطع البحرية الحربية بالمرور من مضايقها بالإضافة إلى المواد 5 و6 حول السفن التجارية.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس