د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

لأسباب متشابكة وجدت تركيا نفسها وجهًا لوجه مع واقع معقّد وقاس وخطير ربّما لم يكن أكثر المتشائمين في تركيا قبل عشر سنوات يتصوّره. فبينما كانت الحكومة التركية تبني استراتيجيتها في المنطقة والعالم، وفق ما رسمه وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي" على سياسة "تصفير المشاكل" مع جيرانها ومع العالم تجد تركيا نفسها اليوم تسير باتجاه "صفر سلام" خصوصا مع دول الجوار مثل سُوريا والعراق وإيران، بالإضافة إلى مصر وإسرائيل غير البعيدتين عنها، وكذلك روسيا التي ربّما لم تنس أحقادها القديمة مع تركيا قبل قرون من الزمن، ولم تغفر لها تعدّيها على هيبتها بإسقاط طائرتها. وينضاف إلى كل هذا خذلان حلفائها الذين كانت تعوّل عليهم في الوقوف معها وقت الحاجة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى، فهؤلاء فضلوا المصالح على المبادئ فكانت النتيجة أن انحازوا إلى الطّغاة والحَاقدين والمستبدّين، وتنكروا للمبادئ التي كثيرًا ما تغنّوا بها وأشبعوا مسامعنا بها مثل الحرية والدّيمقراطية وحق الشّعوب في تقرير المصير.

تركيا هدفًا للأحقاد

منذ النّصف الثاني من القرن السّادس عشر حتّى اندلاع الحرب العالمية الأولى دخلت روسيا في أكثر من عشر حروب مع الدّولة العثمانية. وقد كان الانتصار فيها سجالًا بين الأتراك العثمانيين وبين الرّوس. وليس من شك في أنّ الذاكرة التّاريخية ما تزال متوقّدة وحيّة. وما إن وقعت حادثة إسقاط الطائرة الرّوسية بواسطة القاذفات الحربيّة التركيّة حتى عادت إلى الأذهان تلك الصّورة القديمة من التّوتر المتواصل على مدى أربعة قرون كاملة. روسيا دولة كبيرة عسكريّا وجغرافيا وبشريّا، وما صنعته تركيا بها يعدّ خدشا مؤلما لكرامتها وكبريائها، ومهما تقادم زمن الجراح القديمة فلا شكّ أن ألمها ينبعث من جديد عندما يحركها محرّك ما، لذلك كان الموقف الروسي صارمًا ضد تركيا سواء من حيث التصريحات، أو من حيث الفعل الميداني متمثّلًا في الانتقام من المعارضة السّورية التي تدعمها تركيا ضدّ نظام بشار الأسد.  

إمعان روسيا في القصف والتّقتيل بلا رحمة ولا هوادة رسالة واضحة لتركيا بأنّ أيّ تدخل من قبلها سوف يُقابل بالحزم نفسه. ولهذا السّبب تراجعت حدّة اللهجة التركية إزاء روسيا خاصة بعد أن اكتشفت أنّ الدعم المتوقع من حلفائها في الحلف الأطلسي لا يعدو أن يكون مجرد تصريحات جوفاء لا أثر لها في الواقع. وقد أورد العالم التّونسي محمّد السّنوسي في كتابه صفوة الاعتبار الذي ألف جزءً منه بالأستانة في حوالي عام 1882م نصا مترجمًا لإحدى الوصايا من قسيس روسي كبير يدعو الرّوس إلى أن لا يتوقفوا عن الحرب وخصوصًا ضد الأتراك المسلمين من أجل أن تبقى الكلمة للرّوس وحتى لا يفقد هؤلاء الرّغبة والقدرة على القتال. وربّما حان الوقت للرّوس لكي يبدؤوا جولة جديدة من الحروب بعد حوالي ثلاثة عقود من انسحابهم من أفغانستان مهزومين علّهم يصلحوا قدراتهم على القتال التي فقدوها من قبل في جبال تلك البلاد.

إسرائيل كذلك لم تخف رغبتها في التّنغيص على تركيا والرّد بقوة في الوقت المناسب على الموقف التّركي بسبب وقوف تركيا حكومة وشعبا إلى جانب الشّعب الفلسطيني أثناء الحصار. وقد زادت وتيرة التّوتر بين الطرفين منذ عام 2009م بعد أن تم الهجوم على سفينة ماوي مرمرة التّركية وقتل عدد من المواطنين الأتراك على متن السّفينة. الأحقاد الإسرائيلية تتبدّى في انسجام موقفها وتماهيه مع الموقف الرّوسي الذي يتّهم تركيا بدعم تنظيم الدّولة الإسلامية وتعاملها معه في موضوع النفط، وتسهيل دخول المقاتلين الأجانب عن طريق أرضيها، وكذلك في التنسيق الكامل مع الروس داخل الأراضي السّورية وتقديم الدعم الكامل لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وجناحه المسلح وحدات الحماية الكردية الذي تعتبره تركيا منظمة إرهابيّة.

عندما تتغلّب المصالح على المبادئ

لعل من الأسباب التي سارعت بحشد الخصوم ضدّ تركيا في الوقت الحالي هو تمسّك تركيا ببعض المبادئ بينما يتحرّك خصومها وفق مصالحهم. فالولايات المتحدة لا تعنيها المبادئ بل المصالح، وهذا ما تبين بكل وضوح في الأزمة المصريّة فقد رحّب أوباما في البداية بالثّورة المصرية ووعد بتقديم الدّعم للديمقراطيات العربية الناشئة بعد الثورات، ثم ما لبث أن نكص على عقبيه، واختفى من المشهد، وترك حبل العسكر والانقلابيين على غاربه، ولم يحرّك ساكنًا وهو يشاهد الآلاف من النّاس الأبرياء يُداسون بالعربات العسكرية في الطّرقات. وفي الكارثة السّورية، وعد أوباما بدعم الثورة السّورية وأعلن أكثر من مرة أن لا مكان لبشار الأسد في مستقبل سوريا، واعتبر نظامه إرهابيّا، ثم ما لبث أن تغير الموقف وتماهى مع الموقف الرّوسي الذي يَعتبر إسقاط نظام بشار ليس أولويّة في الوقت الحالي، ثم تخلّت الولايات المتحدة الأمريكية تماما عن المعارضة السّورية التي كانت تعتقد أن لها في أمريكا وأوروبا أصدقاء، وها هي اليوم تجد نفسها في العراء بلا سند ولا ظهير إلا من شعبها وربّها وقليل جدّا من الدّول.

وفي العلاقة مع إيران؛ بالأمس القريب كنّا نسمع من المسؤولين الأمريكان أنّ إيران هي داعمة الإرهاب وتمثل خطرًا على الأمن والسّلم في العالم، وإذا بها تتحوّل فجأة لتصبح صديقة للولايات المتحدة الأمريكية، وتوقّع معها على اتفاق في المجال النووي، وتتسارع الشركات الأمريكية والغربية لتوقيع العقود وجني الأرباح بعد هذا الاتفاق. وفي العلاقة بالدول العربيّة تقاعست الولايات المتحدة الأمريكيّة بشكل واضح عن دعم المملكة العربية السعودية أكبر حلفائها في المنطقة في حربها ضدّ الحوثيين ولم تعتبرهم جماعة انقلابية أو إرهابية رغم كل ما فعلوه في اليمن من تقتيل وتخريب. ولا تختلف المواقف الأوروبية كثيرا عن الأمريكي، وقبل سنوات قال أحد الوزراء الفرنسيين "إن فرنسا ليس لها أصدقاء بل لديها مصالح"، وما نراه اليوم سواء تعلق الأمر بالأزمة السورية أو بالغدر بالثورات العربية ودعم الثورات المضادة خير دليل على أن المصالح تسبق المبادئ عند أمم الغرب إلاّ ما رحم ربّي.

تركيا هدفًا للاستبداد

تركيا تجد نفسها الآن في مواجهة مثلث متكونّ من حاملي الأحقاد وأصحاب المصالح وأرباب الاستبداد. والاستبداد كما يقول الكواكبي "يتصرف في أكثر الميول الطبيعيّة والأخلاق الفاضلة، فيضعفها أو يفسدها". والمستبد "يودّ أن تكون رعيّته كالغنم بـِــرِّا وطاعةً، وكالكلاب تذلّلًا وتملّقًا". ولأن المستبد لا يثق في شعبه ولا ظهير له من أمّته فإنه يُمعن في الظلم ويسرف في الإذلال ويحسب كل صيحة عليه، فلا يثق في أحد ويقتل على الشّبهة. وهذا تماما ما يحدث في أغلب الدول العربيّة. وقد التقت مصالح الاستبداد مع أعداء الثّــورات وأصحاب المصالح فأصبحت المنطقة على صفيح ساخن.

ومن هنا لم نجد مستبدا واحدًا يناصر الثّورات العربية ويقف إلى جانب تطلّعاتها، ولأن وجودهم في السّلطة رهين بالخارج وبمن يعملون لهم ويخدمون مصالحهم فقد رأينا هؤلاء يؤيّدون كلّ سفاح وكل مستبد مثلهم. فتركيا إذن بوقوفها المبدئي إلى جانب الثورات العربية وحقوق الشعوب في الحرية وتقرير المصير تصادمت مع أصحاب المصالح وتصادمت مع عتاة الاستبداد فكثر خصومها وتكالب عليها الأعداء. من المؤكد أن تركيا سوف تعاني كثيرًا في الفترة القادمة، وسوف تتعرض لمضايقات شديدة جدّا، بل إلى مخاطر حقيقية. لأسباب كثيرة أهمها:

- هناك نية لإغراق تركيا باللاّجئين السّوريين بفعل القصف الرّوسي والصّمت الغربي والتواطؤ العربي إلى الحدّ الذي لا تكون البلاد قادرة على استيعابهم، وبالمقابل إغلاق الدّول الأوروبية لحدودها في وجه اللاّجئين. وهو ما يؤثّر سلبا على واقع المواطن التّركي وحياته، ما يدفعه للتذمّر وتحميل الحكومة تبعات ما يحدث.

- التحرش الرّوسي المستمر وتكرار عمليات الاختراق لأجوائها ودفعها لردود أفعال غير منضبطة وغير محسوبة العواقب، بل وجرّها إلى حرب مدمّرة تستنزف كل قدراتها وتأتي على جميع مكتسباتها.

- تخلّي واشنطن عن تركيا وإخلافها لعهودها ووعودها بالوقوف إلى جانبها في وجه الاعتداءات الرّوسية، بل وتوجّه الولايات المتحدة الأمريكية لدعم الأكراد المطالبين بالانفصال وإقامة كيان مستقل لهم بزعم أنّهم هم الذين يقاتلون "الدّولة الإسلامية".

- تراجع أسعار النفط بشكل حادّ، ما يجعل حلفاء تركيا وهم قلائل ممثلين أساسًا في المملكة العربية السعودية وقطر في إعادة حساباتهما لأن الوضع الاقتصادي لكلا البلدين لن يكون قادرا على تحمل أعباء نفقات الحرب والدّعم المالي واللّوجستي للمعارضة السّورية.

كل هذا يجعل التحدّيات التي تمرّ بها تركيا في المرحلة المقبلة من أصعب التحدّيات على الإطلاق، لكن عزاء الحكومة التركية أنّها تستند إلى دعم شعبي قويّ وتحسّن اقتصادي لم يتأثر حتى الآن بشكل جوهري بالتّطورات الحاصلة وتعاطف واسع من قبل قطاعات كبيرة من جماهير العرب والمسلمين في كلّ مكان.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس