ترك برس

قال المُفكّر التونسي، أبو يعرب المرزوقي، "أقولها بمرارة وبخجل: العرب لا يعول عليهم، فحتى في ما بينهم همّهم أن يتغادروا"، مشيرًا أنه كيف إذن يمكن لغيرهم أن يعول عليهم والخيانة الأولى في الحرب الكبرى معلومة وجروحها لم تندمل بعد؟، وذلك في معرض تقييمه للآراء المتباينة حول تردد تركيا في التدخل العسكري في سوريا، حيث لفت إلى أن "العرب لا يعول عليهم لتخلف نخبهم التي هي في الأغلب مليشيات بالسيف والقلم مع الحلف المعادي".

وأوضح المرزوقي في مقال له بعنوان "رهان تركيا: مأزق السنة الاستراتيجي، وكيف الخروج منه"، أن الكلام كثر على تردد تركيا، والخبراء لم يعللوه إلا بما قد يعني أن تركيا خائفة من الحرب بسبب قوة بوتين أو إيران، وهذا مجانب للصواب للعلل التالية التي هي أبعد غورا وأخطر من التهديد الروسي الإيراني المقدور عليه".

وأشار المرزوقي إلى أن "مشكل تركيا مضاعف بالأساس، الأول داخلي ويتعلق بقوتين تتربصان بالنظام. وكلتاهما تقبل الوصف بالدولة الموازية. وكلتاهما لا تريد عودة تركيا لمحيطها ودورها الإسلاميين، الأولى هي الحنين إلى الأتاتركية ويمثلها القوميون واليساريون وما لهم من أذرع في العسكر والإعلام، والثانية هي جماعة جولن المنبثة في المجتمع فضلا عن اختراقها الجيس والأمن والإعلام، فهذان الكيانان الموازيان مستعدان لاغتنام فرصة الحرب لكي يقوما بانقلاب على الحكم الشرعي فيتحقق حلم إيران وبوتين وإسرائيل : إعادة تركيا إلى التبعية والاستبداد والفساد".

وتابع المفكر التونسي قائلًا:

كما يوجد سببان خارجيان لا يجهلهما النظام التركي: 1. فالولايات المتحدة ميالة لمثل هذا السيناريو بوحي من إسرائيل خاصة. 2. والعرب لا يعول عليهم لتخلف نخبهم التي هي في الأغلب مليشيات بالسيف والقلم مع الحلف المعادي.

اقولها بمرارة وبخجل: العرب لا يعول عليهم. فحتى في ما بينهم همهم أن يتغادروا. كيف إذن يمكن لغيرهم أن يعول عليهم والخيانة الأولى في الحرب الكبرى معلومة وجروحها لم تندمل بعد؟

ورغم هذه العقبات الأربع فإن تركيا إذا لم تجد حلا آخر ستخوض المعركة ببطولة وستربحها بإذن الله خاصة إذا قامت بالعملين التاليين. ولعل تهديدها التلميحي يشير إليهما.

1. العمل الأول هو تحريك كل الأتراك في الجمهوريات التي ما تزال تابعة لروسيا وفي إيران. وهم ليسوا مما يستهان به مع مسلمي روسيا أيضا ولهم وزن معتبر.

2. والعمل الثاني هو ما أشرت إليه في محاولة الأمس خلال كلامي على البديل الاستراتيجي أعني فتح ساحة المعركة من العراق إلى لبنان بدخول الحدين حتى يسهل عليها تسليح المقاومات كلها لتكون ذراعا قوية.

وهي بهذا ستضع أمريكا أمام اختبار مضاعف: أولا ستضطرها للخيار بينها وبين أعدائها لأن حربها المزعومة على الأرهاب ستصبح هزيلة من دون أرض تركيا وقواعدها القريبة.

وفي ذلك غنم كبير لأن نظام العراق سيسقط وإيران ستضطر للدخول المباشر في الحرب مما يسهل ضربها الموجع بمعنيين: في المعركة في الهلال وفي الداخل لأن الأقوام غير الفارسية ستثور.

وثانيا -وهذا هو الأهم- ستكون تركيا قد استبقت ما يراد بها لتحول دونه وهي ما تزال قوية وعليها ألا تنتظره إلى أن يفت في عضدها فتسد عليها أبواب الحركة.

وإذا كان في العرب بقية باقية من الرجولة فلا بد من مساندة تركيا بالمال والعتاد وإذا لزم الأمر بالرجال رغم أنها في غنى بكل يقين وإيمان. ولا أعتقد لحظة واحدة أن تركيا ستستسلم لإيران وبوتين أو أنها تخافهما. كما أنه من الصعب أن يقبل الغرب عندما يجد الجد بأن تصبح أوروبا تحت رحمتهما في كل مددها الطاقي إذا سقط الإقليم بسقوط تركيا والسعودية.

والغرب يتصور نفسه حاليا مسيطرا على الوضع. لذلك فهو يلعب لعبة استعمال إيران وروسيا لإضعاف السنة بهما ولإضعافهما بالسنة ليسيطر على الإقليم استعدادا بموقعه وبما فيه لأقطاب العالم الجديد.

حاورني أحد مراسلي جماعة جولن ليقنعني بأن الحزب الحاكم في تركيا اخواني وخائن للشعب التركي وأن جماعة جولن هي التي تمثل المصلحة التركية العليا فحاولت إقناع المحاور بالعكس وتركته. وطبعا إني أعلم أنه يبث لقاءه معي. والمشكل الخطير بحق هو أن التوجه الإسلامي في النظام والمجتمع التركي ما يزال هشا رغم الانتصارات السياسية التي تفسر بالنجاح الاقتصادي لأن التوجه لم يرسخ بعد. لكن الحرب ستقوي الحس القومي وكذلك الرابطة الدينية دون شك ولعلها بذلك ستزيد الحكم متانة ووحدة الشعب التركي لحمة خاصة بسبب الخيانة المنتظرة من الأقليتين الكردية والعلوية.

وكل من له دراية ببعض مبادئ الحروب يعلم أنها يمكن أن تكون فرصة للخونة لإنجاز مشروعات التخريب الداخلي وكلنا يعلم من يتربص بتركيا داخليا. وقد أمكن للنظام السيطرة على صنفي المتربصين بتركيا وعدم تبعيتها لـأمريكا وإسرائيل بسياسة صفر عداوة مع محيطها. فقصد الأعداء إرجاعها لبيت الطاعة. ولا مخرج من هذا المضيق إلا بما وصفت: فكما استفادت تركيا بذكاء من سياسة صفر عداوة فعليها أن تستفيد كذلك من الاستفادة من عموم العداوة في الإقليم بالخطة الموصوفة.

فأولا ينبغي تمكين المقاومة من أدوات الصمود وتعميمها في الإقليم على الأقل من العراق إلى لبنان حتى توسع المسرح فتيسر قدرات التدخل فيه. وثانيا لا بد من تحريك كل أتراك المنطقة وخاصة في إيران والعراق وسوريا والجمهوريات الإسلامية التي ما تزال خاضعة لروسيا فتسترد قوتها الضاربة.

وإني واثق من أن الأتراك لا تخفى عنهم هذه الحلول ولعلهم ينتظرون مفعول الاستنزاف الحالي حتى يكون ردهم حاسما بسرعة: فأزمة البترول حليفتها. لذلك فعندي أن الخوف على تركيا ليس من إيران وروسيا بل من إسرائيل وأمريكا. فهما يريدان إرجاعها إلى بيت الطاعة ومنع خطتها التنموية الناجحة خاصة والثورة في الإقليم تجد فيها نموذج التنمية الحديثة والأصيلة في آن. 

ولا أستبعد أن لأوروبا عامة وألمانيا خاصة دورا كبيرا في هذه الخطة لأن تركيا أصبحت مخيفة للأوروبيين بسبب عودتها إلى الإسلام وقوتها الصاعدة. فهي أشبه بنمور جنوب شرق آسيا فضلا عن الدفق الديموغرافي والدور الإقليمي الذي يلمح له بعض القردة العرب عندما يتكلمون على العثمانية الجديدة. وإذا كانت عثمانية أردوغان جديدة فالحرب على الخلافة قديمة: خيانة الحرب العالمية الأولى والأصل الصليبي والطائفي للقومية العربية لا يخفيان عن أحد.

ودون ذكر الأسماء فإن خلافي مع أحد الوجوه المتنفذة في الساحة السياسية والفكرية العربية من المتكلمين باسم القومية بدأ لما بينت له أن غالبية المغاربة لا يقبلون بحل المشارقة: القومية العربية. إنها أخطر أدوات القضاء على وحدة الأمة بمعنيين: العداء للأتراك في حين أنهم هم الذين هزموا حرب الاسترداد وإلا لكان المغرب قد ضاع مع الاندلس. ومجرد دعوى التوحيد على اساس القومية العربية ينقلب إلى تفتيت الإقليم بمعيار العرقيات لأن ما يحق للعرب يحق للكرد والأمازيغ.

الإقليم وحدة غالبيته سنة الإسلام. والعربية بوصفها لغة القرآن ولغة الحضارة الجامعة بين هذه الأعراق تابعة للإسلام الذي حرر شعوب الإقليم من الشعوبيات لولا مرض الفرس وحقدهم. وهذا المرض الحاقد هو الذي جمع بقايا الباطنية والصليبية والعلمانية والليبرالية بمظلة القومية للقيام بالتخريب الداخلي وخاصة في الهلال والخليج. وتخريب الخليج تابع للتخريب في الهلال لأن جل كوادر الخليج وخاصة الإعلامية والاقتصادية من الهلال فضلا عن الأقليات الصفوية وفاشية القومية : فمن يستخدم غيره في الأدنى يستخدمه غيره في الأسمى لا محالة.

وقد بدأنا نرى نفس الطاعون يسري إلى المغرب العربي بتوسط بعثات إيران الدبلوماسية المزعومة وفضلات خلايا البعث والناصرية والقذافية والماركسية. لكن شعوب المغرب لهم بالمرصاد. وهم قد فضحوا أنفسهم من خلال تحالفهم مع السيسي وبشار وحفتر وإيران وأحزاب الشيطان الذين فضحتهم منذ عقدين. ولهذه العلة اقترحت بأن نسمي الإقليم الذي يسمونه “الوطن العربي” باسم جديد أفضل يوحد ولا يفرق هو مشروع “ولايات الوسط المتحدة” بالمعنى المناسب حقا.

فأولا كل الوحدات في العالم تستمد اسمها من الجغرافيا وليس من العرق: أمريكا أوروبا الصين الهند إلخ.. وثانيا الإقليم في الوسط من قارات ثلاث. وثالثا الإسلام يصفنا بكوننا “أمة وسطا” وطبعا هو يقصد كل دار الإسلام. والإقليم هو وسط هذا الوسط لأن أمة الإسلام وسط جغرافيا بين الميحطين. ورابعا التوسط بالمعنى الإسلامي قيمي فضلا عن الجغرافي. لكن التوسط القيمي سببه أنه توسط تاريخي بين تجربتين كونيتين فاشلتين القديمة والحديثة.

ما يعني أنه الوسط المطلق كما سيكون بفضل الاستئناف الذي يتجاوز التجربة الكونية الحديثة كما تجاوز النشأة الأولى التجربة الكونية القديمة. وتجربة الكونية القديمة تجاوزتها النشأة الأولى بتجاوز كونية الأديان المحرفة. وتجربة الكونية الحديثة التي سيتجاوزها الاستئناف بتجاوز كونية الفلسفة المحرفة. والجمع بين التجاوزين هو مفهوم الشهادة على العالمين:

الإسلام سينقذ الإنسانية مرة ثانية وهي الحاسمة ومن ثم فما يجري اليوم في الإقليم مصيري. وعودة تركيا لحضن الإسلام وتمكنها من استئناف بناء حديث وأصيل في آن بحاجة إلى إعادة تحديد دور أستئناف الإسلام في المستقبل ليكون جنيس دوره في النشأة في الماضي. وحسم المعركة في عاصمتي الخلافتين المحتلتين دمشق وبغداد شرط في دور عاصمة بداية الخلافة وغايتها في شكلها الماضي لبناء شكلها المقبل. وشكلها المقبل هو القطب الإسلامي العالمي بزعامة عربية تركية تمثل قاطرة الاستئناف.

ذلك هو المشروع الذي لسوء الحظ نخب الغرب أكثر إدراكا لضرورة منعه من إدراك نخب المسلمين لضرورة تحقيقه.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!