محمد حامد - خاص ترك برس

ألقت الزيارة التي قام بها الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريبلين إلى موسكو أول أمس ولقاؤه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين مزيدا من الضوء على التعاون الذي لم يعد يخفى على أحد بين موسكو وتل أبيب. وقد حاول المحلل الإسرائيلي، أمير تيبون، في التقرير، الذي نعرض ترجمته إلى إثبات، أن العلاقات الإسرائيلية الروسية تقوم في المقام الأول على ما يخدم مصالحهما المشتركة، وأنه يبقى في دائرة التحالف التكتيكي الآني، ولم يصل إلى درجة التحالف الاستراتيجي. لكنه رغم ذلك كشف عن أسرار جديدة في تاريخ التعاون بين البلدين في عهد الرئيس الروسي بوتين، ورؤية بوتين إلى إسرائيل على أنها تمثل جسرا بين روسيا والغرب، كما يكشف عن دعم بوتين لهجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، والعلاقة الحميمة التي جمعته برؤساء وزراء إسرائيل من شارون حتى نتنياهو.

***

لم يكن بمقدور الرئيس رؤوفين ريبلين التفكير في توقيت أفضل لزيارة موسكو من هذا الأسبوع. عندما اقترح الكرملين على مكتب الرئيس في الشهر الماضي أن تجري الزيارة في الخامس عشر من شهر آذار/ مارس، كان هذا يعني أن ريبلين سيضطر إلى إلغاء زيارته لأستراليا التي خطط لها منذ مدة طويلة. وقد أدى ذلك إلى خيبة أمل كبيرة لدى الحكومة الأسترالية، والطائفة اليهودية هناك. ولكن بعد الإعلان الروسي المفاجئ هذا الأسبوع عن سحب معظم قواتهم من سوريا، فما من شك في أن ريبلين كان محقا حينما قرر التخلي عن سيدني لصالح موسكو.

تحدث ريبلين قبل سفره إلى موسكو هاتفيا مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ورئيس أركان الجيش الجنرال جابي أيزنكوت، لكي يكون على معرفة بأدق التفاصيل التي تعرفها إسرائيل عن التحركات الروسية في الآونة الأخيرة. اعترف أيزنكوت خلال بيانه أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست أن الإعلان الروسي فاجأ إسرائيل. وأوضح أنه "على النقيض من القرار الروسي قبل بضعة أشهر بالتدخل الفعال في الحرب السورية، وقتها كان لإسرائيل إشارات عن ذلك التقطتها المخابرات العسكرية أمان، فإننا لم يكن لدينا، مثلما لم يكن لدى الآخرين، أي معلومات مسبقة عن الإعلان الروسي الذي صدر مساء أمس عن تقليص التدخل الروسي".

يعد تصريح أيزنكوت تذكيرا بالأهمية الكبرى لمنظومة العلاقات بين روسيا وإسرائيل، كما يذكر بالقيود المفروضة على هذه المنظومة. فمن ناحية استعادت روسيا في السنوات الأخيرة، وبقوة خلال السنة الماضية، مكانتها لاعبا رئيسا في الشرق الأوسط، إلى حد أن هناك من يزعم أنها صارت أكثر أهمية من الولايات المتحدة في المنطقة. هذه العملية خلقت لدى تل أبيب إحساسا بالحاجة الملحة لتحسين العلاقات مع موسكو والتنسيق معها. ومن ناحية أخرى، وخلافا لتوقعات كثير من الإسرائيليين، لا تزال روسيا بعيدة عن أن تكون حليفا لإسرائيل، وحقيقة أن الإجراء الروسي الأخير لم ينسق بأي شكل من الأشكال مع إسرائيل هو مجرد مثال على ذلك.

أحداث الأسبوع الماضي فرصة جيدة لاختبار منظومة العلاقات الإسرائيلية الروسية بنظرة أكثر اتساعا: هل إسرائيل مهمة لروسيا أكبر دولة في العالم من الناحية الجغرافية، ثاني أكبر قوة عسكرية؟ هل تحسنت العلاقات بين البلدين في الآونة الأخيرة أم أن هذا انطباع سطحي فقط؟ وما الذي يمكن أن نتعلمه من تاريخ العلاقات بين البلدين في الوقت الحاضر وفي المستقبل؟

العلاقات الإسرائيلية الروسية موضوع حديث نسبيا من الناحية الرسمية. في سنة 1967 قطع الاتحاد السوفيتي علاقته مع إسرائيل في أعقاب حرب الأيام الستة. واستمرت القطيعة حتى سنة 1991 عشية تفكك الإمبراطورية السوفييتية. جرت الاتصالات الأولى لاستئناف العلاقات بين البلدين في الثمانينيات، لكن العملية لم تنضج إلا في خريف عام 1991 عندما قرر البلدان رسميا إنهاء القطيعة بينهما، وتبادلا السفراء. وبعد وقت قصير انتهى الاتحاد السوفييتي من الوجود، وحلت العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين إسرائيل وروسيا محل الاتحاد السوفييتي.

في مقابلة مع موقع والا الإخباري، هذا الأسبوع، روى مسؤول إسرائيلي سابق، كان يتولى منصبا رفيعا في الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، قصة تبدو أقرب إلى الخيال "في الوقت الذي كان الاتحاد السوفيتي انهار تقريبا كانت هناك في المقابل اتصالات بيننا لاستئناف العلاقات. أرسل غورباتشوف مبعوثا إلى إسحاق شامير بطلب غير مألوف. كان يريد أن تساعد إسرائيل الاتحاد السوفيتي في جمع مليارات الدولارات من مستثمرين في أنحاء العالم. لم يعرف شامير في الواقع كيف يرد على هذا الطلب، وعندئذ قال شيئا من قبيل سنبحث ونستفسر. وفي النهاية لم يثمر ذلك عن شئ، لكن حقيقة الطلب تدل على أن لدى بعض الروس، بمن في ذلك اصحاب المناصب العليا، صورة لإسرائيل على أنها دولة عظمى تستمد قوتها من الأساطير عن القوة اليهودية ونفوذها في العالم. واعتقد، ويا للأسف الشديد، أن هذه الصورة لها أثر حتى اليوم على مكانة إسرائيل بين دول شرق أوربا بما في ذلك روسيا".

رافق استئناف العلاقات بين البلدين كثير من التفاؤل. يقول ناتان شارانسكي رئيس الوكالة اليهودية الحالي، والوزير السابق في الحكومة، والسجين السابق في الاتحاد السوفييتي: "كانت هناك آمال غير واقعية. في عقد التسعينيات، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، أعاد البلدان اكتشاف أحدهما للآخر، وكان هناك أمل كبير. شاعت في روسيا مقاربة بأن إسرائيل ستكون أشبه بالجسر بين روسيا والغرب. ويرجع ذلك جزئيا إلى الهجرة الروسية الضخمة إلى إسرائيل. كما عبر بوتين نفسه عن ذلك بطريقة مماثلة فقال إن اليهود يمكن أن يكونوا جسرا بين روسيا والغرب. وفي غضون ذلك اتضح أن علاقات روسيا والغرب ليست أمرا سهلا، كما أن لدينا أيضا مشاكلنا مع أوربا وحتى مع الولايات المتحدة. ولم تنجح هذه الفكرة حتى الوقت الراهن".

هذه الفكرة الخاطئة لم تعد موجودة، ولكن خلال تخلصنا منها اكتشفنا أن لروسيا وإسرائيل كثيرا من المصالح المشتركة. هذا صحيح مثلا في سوريا، حيث تدرك البلدان جيدا أن مصلحتنا الصريحة هي تحاشي الحوادث والأخطاء، لكي لا نجد أنفسنا في وضع تركيا نفسه. وهذا صحيح أيضا بالنسبة للاقتصاد، فقد فرض الغرب كثيرا من العقوبات على الاقتصاد الروسي بسبب غزو أوكرانيا، ما فتح أبوابا أمام إسرائيل، فهناك اهتمام متزايد من جانب روسيا بالصادرات الإسرائيلية. لكن المصالح بالطبع ليست متطابقة دائما، ففي الشأن الإيراني مثلا كان هناك من يأمل في أن تتفهم روسيا موقفنا، ولكن المصلحة الروسية في هذه المسألة تأثرت في المقام الأول من المنافسة الروسية الأمريكية، ولذلك ساعد الروس الإيرانيين، ولم يتبنوا وجهة نظرنا".

ومن الجدير بالذكر أن روسيا ساهمت كثيرا في تطوير البرنامج النووي الإيراني، وتشارك إيران الزعم بأن برنامجها لأغراض مدنية وليس عسكرية، كما أن روسيا أمدت لسنوات طويلة سوريا وإيران بأسلحة وصل بعضها في نهاية المطاف إلى حزب الله، على الرغم من احتجاج إسرائيل. يقول مسؤول إسرائيلي كبير: "الحقيقة أن بوتين مستمع جيد ومتعاطف مع إسرائيل، ولكن في الأمور المهمة بالنسبة له في الحقيقة فإنه لا يكترث بأحد. وهكذا فإن بيننا تنسيقا أمنيا ممتازا على المستوى التكتيكي الآني، ويجب أن نكون ممتنين لذلك. ولكن عندما قرر بوتين هذا الأسبوع القيام بعملية استراتيجية كبيرة سمعنا عن ذلك من خلال وسائل الإعلام، وليس لدينا ما نفعله، فهكذا هو الرجل".

كان لبوتين علاقة حميمة خاصة مع رئيس الحكومة الراحل أريئيل شارون الذي وصل إلى سدة الحكم في إسرائيل بعد عامين من وصول بوتين إلى السلطة في روسيا. يقول دوف فايسجلاس مدير مكتب شارون السابق: "كان بينهما مودة متبادلة وتقدير عميق. كان بوتين وحاشيته يولون تقديرا لأصول شارون الروسية. كانوا يتمتعون بالحديث معه باللغة الروسية، وأعجبوا بسعة إطلاعه على التاريخ والثقافة والطعام والفكر الروسي وبأسلوب التفكير الروسي عموما، ما خلق علاقة طبية وشخصية بين الزعيمين".

ويروي فايسجلاس "أن الروس يهتمون جدا بالطابع الرسمي عند عقد اللقاءات السياسية. يتحدث بوتين الروسية فقط، وإلى جواره مترجمان أحدهما يترجم كلامه إلى العبرية، والآخر يترجم من العبرية إلى الروسية. ولكن في اللقاءات غير الرسمية بينهما، مثل تناول الطعام أو المشي معا، كان بوتين وشارون يثرثران بالروسية، وكان من الممكن رؤيتهما يتمتعان بذلك. كان شارون مولعا بالتاريخ العسكري الروسي، وهو موضوع محبب أيضا لبوتين. كانت العلاقة بينهما وثيقة إلى درجة أن بوتين استخدم شارون بضع مرات لنقل رسائل عن طريقه إلى الإدارة الأمريكية". ومن الجدير بالذكر أن روسيا في تلك الحقبة كانت شريكا كاملا في التحركات التي تبنتها إدارة الرئيس الجمهوري بوش في الشأن الإسرائيلي الفلسطيني مثل خارطة الطريق.

ويحكي فايسجلاس أنه "في إحدى المحادثات بينهما سأل شارون بوتين: ما الذي يمكن أن تقدمه إسرائيل الصغيرة في الواقع لبلد ضخم مثل روسيا. فأجابه بوتين أن الروس معجبون للغاية من قوة اللوبي المؤيد لإسرائيل (إيباك) وسائر المنظمات اليهودية في العاصمة الأمريكية. وذكر بوتين أن هناك جالية روسية ضخمة في الولايات المتحدة أكبر بكثير من الجالية اليهودية هناك، ولكن الجالية اليهودية أكثر تنظيما ونفوذا. كان انطباعي أن بوتين "يودوفيليا" أي أن لديه حبا وتقديرا حقيقيا "للشعب اليهودي"، وأنه يرى اليهود شعبا ينبغي التعلم منه."

يقول شارانسكي: "كانت هناك علاقة طيبة بين بوتين وشارون، لكنني لم أر قط أحد الطرفين يتنازل عن مصلحة جوهرية له لهذا السبب. بوتين لديه اليوم أيضا علاقة طيبة مع نتنياهو، ونحن نعرف ما الذي يمكن أن نحصل عليه خلال المباحثات معه وما يستحيل تحقيقه. أثرت شخصيا مع بوتين ورجاله في بعض المناسبات قضية السلاح الروسي الذي الذي يصل بطرق غير مباشرة إلى حزب الله، فقالوا لنا إن ذلك سيتوقف. ولكننا نعرف وياللأسف أن ذلك لم يحدث."

ويتذكر شارانسكي لقاءه ببوتين في شباط/ فبراير 1999 عندما كان بوتين يرأس الاستخبارات الروسية "كنت في ذلك الوقت وزيرا في حكومة نتنياهو، وأرسلت إلى روسيا لبحث عدد من القضايا التي تزعجنا، بعضها أمني وبعضها اقتصادي. طلبت عقد لقاء مع بوتين، والتقيته في مبنى كان في السابق مقرا  للكي جي بي. وخلال اللقاء أثرت موضوع معاداة السامية في روسيا، حيث وقعت حوادث اعتداءات كثيرة على اليهود. وأوضح لي رد بوتين أنه رجل استثنائي. قال لي أتفهم مخاوفكم حول معاداة السامية، ولكن عليكم أن تدركوا أيضا أنه بالنسبة لنا فإن معاداة السامية تمثل خطرا أكبر علينا. بالنسبة لنا إذا وقعت مذابح لليهود في روسيا، فهذا يعني أننا فقدنا السيطرة، وأن روسيا لم تعد دولة. وقال لي أنه مادام جزءا من الحكم في روسيا، فلن يسمح بحدوث ذلك لأنه يقوض استقرار البلاد."

وخلال تلك الزيارة سمح بوتين لشارانسكي بمراجعة ملف التحقيقات التي قام بها منذ السبعينيات عندما أودعته السلطات السوفيتية في السجن بسبب نشاطه الصهيوني في دعم الهجرة إلى إسرائيل. "توجهت (والكلام لشارانسكي) أكثر من مرة إلى السلطات في روسيا خلال السنوات الأخيرة بطلب السماح لي بالاطلاع على ملفي الخاص، لكنني لم أتلق ردا إيجابيا في أي مرة. ولكن فجأة في نهاية لقائي مع بوتين قال لي أعرف أنك أبديت اهتماما برؤية ملفات التحقيق معك. لقد أعددناها، وأنت مدعو للاطلاع عليها بعد انتهاء اللقاء. أرجأت رحلة العودة إلى إسرائيل يوما واحدا، وأمضيت يوما كاملا في قراءة الوثائق. كانت هناك فقرات لم تمكني من معرفة كل ما يتعلق بمصادر المعلومات، لكن الباقي كان واضحا تماما. كانت تجربة خاصة للغاية بالنسبة لي."

ولكن على الرغم من هذه القصص الإيجابية، يشدد شارانسكي على أنه بالنسبة لبوتين فإن المصلحة الروسية تأتي في المقام الأول. سألت شارانسكي عن الفكرة الرائجة في التعليقات، وتبهر كثيرا من الإسرائيليين بأنه يجب على إسرائيل التقرب من روسيا بوتين القوي، حتى لو كان ذلك على حساب العلاقات مع الولايات المتحدة، فأجاب: "أعتقد أن هذا محض هراء، فحتى لو كانت لدينا صعوبات معينة مع الولايات المتحدة ، فإن أساس علاقتنا مع أمريكا قوي للغاية بحيث لا يمكن أن يقارن مع أي بلد آخر. هناك أساس من القيم المشتركة وتاريخ من الصداقة لا نملك مثله مع أي دولة أخرى في العالم."

وأضاف شارانسكي "توجد في كل حقبة زمنية دول أخرى تزيد من تدخلها في الشرق الأوسط، وعندئذ تحاول إسرائيل التقرب من هذه الدول. كانت فرنسا ذات مرة ، ونحن نرى الآن استعراض عضلات من بوتين، وربما تعبر الهند أو الصين في المستقبل عن اهتمام متزايد بما يحدث هنا. يجب على إسرائيل أن تتقارب مع هذه الدول كلها. ومن المهم أننا نجري حوارا مستمرا مع الروس، وزيارات إلى موسكو يقوم بها ريبلين ونتنياهو، ولكن في النهاية فإن أقرب حليف لنا هو أمريكا."

ويرى دان مريدور، الذي تولى منصب وزير العدل ووزير المالية ووزير شؤون الاستخبارات أن لروسيا مصلحة في علاقات جيدة معنا، لأنهم زادوا من تدخلهم في منطقة الشرق الأوسط. ولدينا بالطبع مصلحة في التقارب معهم، ولكن من يعتقد أن ذلك يمكن أن يأتي على حساب الولايات المتحدة، فإنه لا يفهم ما يقوله.

"هناك صيحة في إسرائيل تقول إن بوتين قوي وأوباما ضعيف، روسيا قوية وأمريكا ضعيفة. أعتقد أن العكس من ذلك تماما. ما من شك أن أوباما ارتكب أخطاء. وقد عرف بوتين كيف يستغل بعضا من هذه الأخطاء لكي يحسن مكانة روسيا في المنطقة. ولكن عندما ننظر إلى المؤشرات الاقتصادية نرى بوضوح أن الأمريكيين، رغم كل مشاكلهم، في وضع أفضل بكثير من منافسيهم جميعا بمن في ذلك الروس الذين أصبح اقتصادهم في وضع ليس بالهين مع انخفاض أسعار النفط. العالم كله يتسول على باب الولايات المتحدة. وهذا لا يعني ألا نتقارب مع روسيا، ولكن يجب أن نحتفظ بتفكير منطقي في هذا الصدد."

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!