مصطفى القاسم - خاص ترك برس

هل تريد أن تعرف ما الذي ستفعله الولايات المتحدة الأمريكية مستقبلًا؟ ذلك أمر يسير؛ انظر تصريحاتهم ودعواتهم وتأكيداتهم وتنديداتهم، ثم انظر عكسها، فإذا أتقنت القراءة والعكس فستعلم ليس ما سيفعلونه فقط، وإنما ستعلم استراتيجياتهم السريّة المستقبليّة.

في الولايات المتحدة يتداول السلطة حزبان، أحدهما يتبنى الفيل رمزا، أما الآخر فرمزه الحمار، ويقدّم الإعلاميون أحيانًا تحليلات تصوّر سياسة تلك الدولة متغيّرة سلبا وإيجابا بتولي هذا المرشّح أو ذاك سدّة الرئاسة، ولا يدرك هؤلاء أنه لا فرق بين الفيل والحمار عندما يكون عقلهما عقل ثعلب.

إن المتتبع للسياسة الأمريكية بحسن نيّة – أقول بحسن نيّة - يحار في هذا الفشل الكبير الذي تمنى به السياسة الأمريكية بشكل دائم! فكل ما يصرّح به الساسة الأمريكيون من مواقف وتأكيدات وتحذيرات وخطوط ملوّنة، ولا سيما تلك الخطوط الحمراء، جميع هذه التصريحات تقترن بنتائج عكسية! وحقيقة الأمر أن التصريحات الأمريكية تحتاج إلى بعض سوء نيّة في استقرائها، وعندها سيعلم القارئ يقينًا أن الساسة الأمريكيين لا يعنون ما يقولون!

لن نذهب بالتاريخ بعيدًا في الماضي؛ سنبدأ عندما أعطت السفيرة الأمريكية في العراق حاكمها الضوء الأخضر لمهاجمة الكويت، صدّق الرجل - وقد غلبت فيه شخصيته العسكرية - معسول كلام الدبلوماسية، وإن هي إلا أيام حتى اجتاحت دباباته أراضي الكويت، وكانت تلك الذريعة التي استندت إليها الولايات المتحدة في المرة الأولى في حشدها جيوش أعداء العراق و(أصدقائه وأشقائه) على حدود العراق والكويت، وصولا مع الأيام إلى قلب العراق النابض عاصمته بغداد والإطاحة بالعراق الدولة والمستقبل، ولا زالت الإطاحة عملية مستمرة.

وبالانتقال إلى سورية نجد السفير الأمريكي في دمشق في عام 2011 يشعّ أضواءً خضراء للشعب السوري في ثورته على النظام الظالم، وينتقل السفير الأمريكي إلى حماة حيث تقام أكبر التظاهرات الجماهيرية ليشرف عليها من شرفة أحد أكبر فنادق مدينة حماة، وينتقل إلى مدينة داريا (سرا) برفقة خمسة سفراء آخرين ليدين جريمة النظام وقتله للناشط السلمي غياث مطر، ويرسل الإشارات والتلميحات والكثير من التصريحات التي تندد بما كان يرتكبه النظام، لقد كانت الجماهير تتداول تلك المواقف على أنها مواقف أمريكية مبدئية ومؤثرة، وتستشعر أن أيام الأسد (باتت معدودة)، فالأيام المعدودة تعبير طالما استخدم من قبل المسؤولين الأمريكيين على أعلى المستويات.

وفي هذه الأيام، وبعد سنوات خمسة، من القتل والتدمير، اللذين مارسهما النظام في سورية باستخدام مختلف صنوف الأسلحة، بما في ذلك الأسلحة الكيميائية والصواريخ بعيدة المدى والطائرات والبراميل المتفجرة، وبعد الكثير من الخطوط الحمراء للنظام والتي لم يلتزم بأي منها، في هذه الأيام تكشفت بشكل واضح للعيان السياسة الأمريكية الرامية إلى الحفاظ على هذا النظام، وحجتهم في ذلك أن لا بديل له في التصدي للإرهاب، وهم يعلمون يقينا أن ذلك النظام هو راعي الإرهاب الأول في الإقليم وفي بعض أجزاء العالم، بل أن محاكمهم ذاتها أصدرت الكثير من الأحكام القضائية التي تدين النظام السوري بارتكاب جرائم إرهابية لن يكون آخرها حكم صدر منذ أيام بإدانته بتفجيرات الفنادق الثلاث في عمّان عام 2005. ومع ذلك تستمر السياسة الأمريكية في المحافظة على ذلك النظام، لأنها تعلم أنّ بقاءه سوف يحافظ على الوضع الراهن المتفجّر، وأن وجوده كفيل بالإطاحة بسورية الدولة والمستقبل، وسوف تبقى الإطاحة عملية مستمرة.

ولئن كانت السياسة الأمريكية ترعى هذه الأعمال في أنحاء مختلفة من المنطقة بنسب مختلفة من الفاعلية والوضوح، ويمكن الإشارة إلى الخليج العربي ومصر وليبيا في هذا السياق، فإن العملية الأوضح اليوم إنما تستهدف – حسب وجهة نظري - تركيا... وإذ أتمنى أني مخطئ في هذا، إلا أن المؤشرات تشير إلى أن تركيا تقع اليوم في بؤرة التركيز.

فالولايات المتحدة وحلفها يُسمعان تركيا بين الحين والآخر تصريحات دبلوماسية تؤكد على الشراكة والصداقة والالتزام بالعهود والمواثيق التحالفية... ولكن لا مشكلة لدى الولايات المتحدة في سحب صواريخ الباتريوت الموجودة في تركيا، ولا مشكلة لدى الولايات المتحدة في اقتحام روسيا لسورية الجارة الجنوبية لتركيا، على ما في ذلك من حساسية بالنسبة لوضع تركيا الإقليمي، ولا كبير مشكلة لديها في خرق الطائرات الروسية للحدود التركية الجنوبية، ولا مشكلة لديها في خلق المزيد من اللجوء من العراق وسورية إلى الأراضي التركية، ولا مشكلة لديها في صولات وجولات التنظيمات المعادية لتركيا وتمركزها على طول حدودها الجنوبية.

والمصيبة أن ذلك لا يقف عند حدود (اللا مشكلة)، بل أن الولايات المتحدة شرعت في إمداد تلك التنظيمات بالكثير من صنوف الأسلحة النوعية التي منعتها أصلا عن الثوار السوريين، والولايات المتحدة تعلم يقينا أن تلك التنظيمات تنسّق مع النظام السوري الحاقد على تركيا، وتعلم أيضا أن تلك التنظيمات تهرّب تلك الأسلحة أو أجزاء منها إلى تنظيمات مصنّفة عالميا على أنها تنظيمات إرهابية تنشط داخل الأراضي التركية.

واليوم أيضا تدخل الولايات المتحدة مستوى متقدما من النيل من الاستقرار التركي عبر دعمها بعض القوى التي تعمل على النيل من الاستقرار الذي تعيشه تركيا، وحجّتها (دفاعها) عن حرية الرأي والتعبير والصحافة في تركيا!

لا مؤشرات على أن تركيا تنال من حرية الصحافة والرأي والتعبير على ما هو ملحوظ في وسائل إعلامها المتنوعة، ولكن لكل دولة أن تفترض أن الحريات فيها يجب أن تكون خاضعة لرقابة القضاء، حتى لا تنقلب إلى وسيلة للفتنة وتقسيم البلاد وتأليب مكونات المجتمع على بعضها البعض، وهذا الأخير هو ما عملت عليه السياسة الأمريكية في العراق وسورية والكثير من الدول الإقليمية، ويبدو أنه هو ما تعمل عليه الولايات المتحدة ومن خلفها إسرائيل وروسيا اليوم في تركيا، لدرجة أن وسائل إعلامهم تعد قيام القضاء بعمله في تطبيق الأحكام القانونية المتوافق عليها مجتمعيا تدخّلا رسميا في حرية الصحافة والإعلام.

قد يخيّل للبعض أن ذلك محض خيال وأنه لا مصلحة للولايات المتحدة، فتصرفات كهذه تمهّد المنطقة لخصمها روسيا؛ ولكن الولايات المتحدة تعلم أن روسيا عاجزة عن السيطرة الفعلية على هذه المنطقة، وأن المزيد من تورّط الدبّ الروسي سيجعل من السهل مستقبلا النيل منه بذات الطريقة التي نجحت في الدول الأخرى بعد انهاكه بالحروب التي لن يستطيع تحمّل فاتورتها. ولذلك سيكون من المناسب توريط الدبّ الروسي في حرب مدمّرة، تكفل إنهاك روسيا وتفتيت بنيتها، وتدفع تركيا فاتورتها. وسيكون طموح بوتين إلى لقب القيصر مفيدا للولايات المتحدة، وكذلك طموح الملالي إلى إحياء إمبراطورية فارس، تماما كما كان طموح صدام حسين وجشع بشار الأسد وعدم توازن عبد الفتاح السيسي... وستستفيد أيضا من سعي بعض مكونات المنطقة إلى دول خاصة مقتطعة من دول الإقليم، والتي ستمهّد بدورها لمزيد ومزيد من التقسيم، وربما لم ينتبه هؤلاء أن الولايات المتحدة إنما تسعى لتأجيج النيران، وهي ليست معنيّة بإطفائها، وستسحب يدها عندما تتأكد من انسداد طرق العودة وتتابع المشهد من بعيد، بينما تأتي النيران على أهل هذه البلاد.

باختصار، وبمنتهى الاختصار، يجب على تركيا أن تحذر اليوم مصير العراق وسورية، وأن تحذر مما يحاك لها من مخططات ترمي إلى الإيقاع بين مكوناتها وتدمير نهضتها، وعليها أن تشكّ كثيرا، وكثيرا جدا، في كل ما يصدر عن الساسة والدبلوماسيين الأمريكيين، وعليها أن تطبق مع الغرب قاعدة: (سوء الظنّ من حسن الفطن).

عن الكاتب

مصطفى القاسم

محامي وكاتب سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس