رامي الجندي - ترك برس

عانت تركيا في الفترة ما قبل مجيئ حزب العدالة والتنمية من تدهور سياسي انعكس على غالبية مناحي الحياة فيها وبخاصة الأمنية والاقتصادية؛ ويمكن الرجوع إلى تأريخ هذه الحِقَب التي تعتبر علامة سوداء في التاريخ التركي؛ وهو أمر يمكن تلخيصه في نظام الحكم الذي كان متبعاً في الجمهورية التركية ما بعد تأسيسها على يد مصطفى كمال أتاتورك؛ مما أوصلها في أحيان كثيرة إلى عدم قدرة الحزب الفائز في الانتخابات على تشكيل حكومة ائتلافية بسبب مناكفات الأحزاب السياسية الأخرى في البرلمان؛ والتي يرجع السبب فيها إلى اختلاف الأيديولوجيا للأحزاب جميعها.

كما أن ثمة عامل آخر يضاف إلى تعقيدات المشهد السياسي التركي آنذاك؛ والمتمثل في كثرة الانقلابات العسكرية على الحكومات التي بلغت أربعة انقلابات كان آخرها الانقلاب الأبيض على حكومة البروفيسور نجم الدين أربكان عام [1]1997.

وبإطلالة أعمق؛ فإن الموقع الاستراتيجي للجمهورية التركية والتي بموجبه تقع في قارتين 3% منها يقع في حدود أوروبا بينما 97% في قارة آسيا؛ وتاريخياً تعتبر وريثة أكبر امبراطورية حكمت أجزاء واسعة من العالم طيلة أربعة عقود من الزمان؛ يجبرها على الدوام على مجابهة المشاكل الخارجية وبخاصة تلك التي تحيط بحدودها والتي لا شك تنعكس على الجبهة الداخلية؛ وهو أمر يتطلب حكمة قيادية في إدارة الدولة؛ وعقلية حاسمة وجريئة في اتخاذ القرارت دون تردد مع إدراكها لحجم المخاطر التي تحدق بها.

منذ تأسيس حزب العدالة والتنمية وتوليه مقاليد الحكم في تركيا عام 2002 وبدئه المسيرة الديمقراطية والإصلاحية، كانت شخصية مؤسس الحزب رجب طيب أردوغان هي الأقوى من بين كافة المؤسسين الآخرين؛ وهو من أحد الأسباب القوية التي منحت الحزب حياة بعد أخرى برغم التهديدات التي أحاطت به، ومنها تحييد قوة العسكر وتدخلهم بالحياة السياسية بعد قانون المهمات الداخلية للجيش التركي الذي صدر عام 1935، حيث نصت المادة الرابعة والثلاثون منه على أن وظيفة الجيش هي حماية وصون الوطن التركي والجمهورية التركية[2]؛ وبهذا التقنين كان قادة العسكر الكماليين يتدخلون في العملية السياسية لحماية وإنقاذ مبادئ الجمهورية التركية.

كما أن أحد التهديدات التي واجهت الحزب هي جماعة فتح الله غولن والتي شكلت كياناً سرياً موازياً للدولة الرسمية دون التقيد بسياسات الدولة العامة وقوانينها المعمول بها بعد تحالف دام تسع سنوات مع العدالة والتنمية؛ لتتحالف سراً مع الدولة العميقة المعادية لحزب العدالة والتنمية؛ مما دفع رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان إلى شن حرب لا هوادة فيها على الجماعة وتصنيفها بالإرهابية في وثيقة الأمن الوطني التركية[3].

وكان أحد أهداف الحزب وبالتحديد رجب طيب أردوغان هو تغيير نظام الحكم في تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، نظراً لتهديدات وتعقيدات المشهد التركي السابق، وهذا ما منح الرئيس أردوغان لاحقاً السير بقوة بعد أول انتخابات رئاسية، تم على إثرها فوز رجب طيب أردوغان بمنصب الرئاسة لأول مرة منذ تأسيس الجمهورية التركية[4]، وهو ما تم اعتباره بمثابة استفتاء شعبي حول عدم رفض التحول إلى النظام الرئاسي.

لكن ثمة مرحلة جديدة أخذت في التبلور أشار إليها رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو في كلمته التي أعلن فيها أن الحزب سيتوجه إلى عقد مؤتمر عام غير عادي برئاسته في الثاني والعشرين من مايو الحالي يتبعه انتخابات لاختيار رئيس جديد للحزب؛ وذلك بعد وصوله مع الرئيس أردوغان إلى نهاية الطريق المسدود، حيث لم يعد بالإمكان قيادة الحزب والدولة برأسين في ظل ما يعصف حولها من أزمات مستعصية تصيب البلاد بعض شررها؛ تتطلب رئيساً قوياً ورئيس وزراء قوي على حدٍ سواء.

لم تكن عملية سحب بعض الصلاحيات من يد رئيس الحزب أحمد داوود أوغلو والمتعلقة بتعيين رؤساء فروع حزب العدالة والتنمية في المحافظات بواسطة تعديل أقرته الهيئة المركزية لقيادة الحزب بداية اختلاف الرؤية لدى الرجلين، بل سبق ذلك أحداث منها صراع اللوائح بينهما في اختيار مرشحي الانتخابات البرلمانية الأخيرة حيث كانت من اختيار وترشيح رئيس الحزب عن تلك التي سبقتها وكانت من اختيار الرئيس نفسه وصلت لنسبة الـ 70% وهو أمر تم اعتباره صراع نفوذ بين جَنَاحَيْن.

لكن الحدث الآخر في الاختلاف فقد تمثل في الازدواجية والثنائية في إدارة الدولة؛ حيث ينص الدستور التركي على أن تقوم الحكومة بالسلطة التنفيذية، بينما تقوم الرئاسة بالدور الرقابي لكن بشكل واسع يتيح لها التصديق أو عدم التصديق على قوانين البرلمان، وهو ما أزَّم الوضع السياسي لدى الحكومات السابقة لقدوم العدالة والتنمية، وهو أحد أهم الأسباب الدافعة بقوة للتحول إلى النظام الرئاسي.

لكن خروج تركيا من هذا المأزق لن يتحقق إلا بتعديلها للدستور بما يتعلق بنظام الحكم فيها، وهي المعركة القادمة التي استعد لها أردوغان وبدء في تنفيذها.

من الأهمية بمكان القول بأن الشخصية القيادية القوية التي يتمتع بها الرئيس أردوغان والتي جدال فيها لدى المواطن التركي، شكلت عاملاً حامياً ليس فقط للحزب وقياداته من تغول العسكر وانقلابات جماعة غولن مع الدولة العميقة، بل وللدولة أيضاً، وكانت من أسباب تحقيق نجاحات كبيرة نسبياً سياسية واقتصادية وأمنية داخلياً وخارجياً؛ لم تكن لتتحقق لولا مُفَكِّر السياسة الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو الذي رسم المسار، والذي يبدو بأن المرحلة القادمة قد تَشَبَّعَت تَنْظِيْرَاً وحان وقت تنفيذ النظريات لتأمين مستقبل الجمهورية برؤية 2023.


[1]  مقال: الانقلابات العسكرية في تركيا.. عقود من الدم والظلم والتدهور الاقتصادي، موقع تركيا بوست

[2]  مقال: العسكر والسياسة في تركيا "1-2"، موقع ساسة بوست

[3] مقال: لماذا استقال أحمد داوود أوغلو، محمود عثمان في ترك برس

[4] مقال: تركيا من الانقلابات إلى التداول السلمي للسلطة؛ الجزيرة نت

عن الكاتب

رامي الجندي

باحث في الفكر الإسلامي والنهضة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس