خاص ترك برس - د. مصطفى الستيتي

عند ذكر كلمة "حرم" أو "حريم" يتبادر إلى الذّهن قصر طوب قابي الذي يوجد في وسط مدينة اسطنبول القديمة بجانب حديقة "كول خانه" على ساحل مضيق البوسفور. ويُصور المرشدُون السّياحيّون والموظّفون المسؤولون عن قصر "طوب قابي" هذا القصر وكأنّه مركز لمجون السّلاطين وملذاتهم، بل ويتصدّرهم بعض رجال العلم والفكر عن قصد، ويصوّرون حياة السلاطين بأنّها كانت حياة عابثة ومرفّهة إلى درجة أسطورية.

يذكر الدّكتور أحمد أق كوندوز المؤرخ التركي المعروف وصاحب كتاب "الوثائق تنطق بالحقائق" أنّه دخل ذات مرة إلى الحرم في قصر طوب قابي لالتقاط صور بآلة التّصوير، وعندما وصل إلى غرفة السّلطان التي شاع أنّها صالة اللّهو والمجون مع الجواري شرح معاني الآيات والأحاديث المنقوشة بخط جميل وجذّاب على الخزف في الجدران فبادره أحد الموظفين المسؤولين في القصر بالسؤال التالي:"أستاذي، كُنّا نقول للزوّار إنّ هذه أبيات شعر ماجن لتحريك شهوات الجواري والنّساء الفاتنات...هل صحيح أنها آيات وأحاديث؟" وعندما أكد له أنها فعلا آيات وأحاديث نبوية أجهش الرّجل بالبكاء. لقد أدرك حجم الجُرم الذي كان يرتكبه في حقّ أجداده وبناة حضارة عظيمة امتدت لأكثر من 600 عام. وكان ينقل أخبارًا مزيّفة لم يتأكد من صحتها، فهو يسيء لنفسه من حيث لا يدري.لكن هذه الدموع دليل رجوع إلى الحقّ، فالاعتراف بالخطإ فضيلة.  

والذي ينبغي أن يعرفه الناس أنّ قصر "طوب قابي" و "قصر يلدز" أو غيرهما من القصور لم تكن مسكنًا يعيش فيه السّلطان وعائلته فقط، بل هو مركز لدوائر الدّولة يجمع ما يشبه اليوم دوائر رئاسة الدّولة ورئاسة الوزراء والوزارات، وهو يضم كذلك سكن عائلة السّلطان. والأجنحة المخصّصة لسكن عائلة السلطان هي "الحرم" في المصطلح العثماني. ومعنى الحرم هو المكان المصان حرمته أو الممنوع الدخول إليه من غير أفراد العائلة نفسها. ومنه "الحرم المكي" و "الحرم النبوي"، إذ يَحرم على غير المسلمين دخولها. ثم انسحب المعنى في العالم الإسلامي إلى تسمية الجزء المخصص للنّساء في الدار بـــ"الحرم"، والذي لا يدخله الرّجال من غير أهل الأسرة نفسها. وجرت العادة على تخصيص جزء للنّساء في دور السكن في مركز الإدارة لرجال الدولة. وقد اصطلح على تسمية القسم المخصص لعائلة السلطان أو لزوجاته بــ"الحرم السلطاني"، أو "الحرم" مجرّدا.

بيد أن الكتاب الغربيين ملؤوا كتبهم بأوهام وتصورات عن الحرم العثماني، مثل كتاب "الحرم" المنشور قبل فترة من الزمن. وهذا الأسلوب ترك بصماته حتى على الأبحاث الجارية باسم البحث العلمي. فالكُتّاب الفرنسيّون هم أول من صوّروا بأقلامهم أسطورة تجهيز الجواري للسلاطين في "الحرم" منذ القرن السابع عشر. فقد كتب Thomad Dallam ما تخيّله عن نساء "الحرم" ثم تبعه سفير البندقية Ohaviano bon (1606-1609م) بأن ذكَر رواياتٍ غريبةً بأسلوب مُثير عن تقديم جواري الغرفة الخاصّة وتجهيزهنّ، وهي أكاذيب يخجل المرء من إعادة ذكرها.

والوثائق العثمانية والمذكرات الشخصيّة لا تؤكد على الإطلاق هذه الأساطير. وكما قيل الحقّ ما شهدت به الأعداء، فقد ذكر الفرنسي روبار أنهيغر Robert Anhegger  المكلف بأعمال صيانة "الحرم" سنة 1960م فقال: "ما كُتب في أوروبا عن الحرم لا أساس له من الواقع، فليس الحرم مؤسسة تخدم أهواء السلطان ليعاشر من يشتهي من النّساء، بل حتى هندسة المباني تُكذّب هذه الادّعاءات. فالتّصميم الهندسي للأبواب والبيوت والممرات يمنع ذلك...فكأنّ الحرم مؤسّسة عسكريّة، وهذا أكثر ما لفت نظري أثناء ترميم الحرم وصيانته". والمؤسف أن الكتاب في العهد الجمهوري نحَوا منحى أولئك الكتّاب الأجانب بدلا من الاعتماد على الوثائق ومعطيات العلم.

لقد امتلأت كتب المؤرخين الغربيين ومجلاتهم بصور خليعة منسوبة إلى "الحرم"، وهي من بنات خيال الرّسامين الفرنسيّين وأوهامهم، ولا أصل لها في الواقع البتة، وقد تمّ نشر تلك الصّور دون اعتبار للصدق أو الكذب، ومن أكذبها تصوير السّلاطين في حمام اللّبن وسط الجواري العاريات.

إن الصّور المنشورة في الكتب المطبوعة في العهد الجمهوري عن "الحرم" والمعبرة عن أوضاع مخلة بالحياء والحشمة هي إفراز خيالي محض لعقول رسامي الغرب. ويمكننا أن نقدم مثالا على ذلك تلك الصّور المنشورة في كتاب "الحرم السلطاني" للكاتبة التركية ميرال ألتون دال. فهذه الصورة الماجنة هي للرّسام كارل بريوللو Karl Briullov ، وكذلك صورة الغلاف في كتاب "المرأة العثمانية" للكاتبة نفسها هي للرسام كاميل روجيي Camille Rogier   ، وكذلك الصورة المنشورة في كتاب Harem The Word Behind The Veil  للكاتبة Alev Lytle Croutier المنشور عام 1989م في الولايات المتحدة الأمريكية هي من ابتداع خيال الرسامين والرحالة الغربيين. فلا يصح بأي حال نسبة هذه الرسوم إلى الحرم العثماني.

وتحكي الكاتبة التركية قصصا عن الحمامات في "الحرم"، ويبدو أن الكاتبة قد تبنّت بشكل مطلق ودوغمائي ما نقله الغربيون من روايات، فقد جاء على غلاف كتاب "الحرم العثماني" ما يلي: "

"عالم غريب يمتدّ من سلطان لديه 130 طفلا إلى زوجات أعمارهن لا تتجاوز ثلاث سنوات...عند فتح الباب يتبيّن لك أن هناك منهم من تزوج اثنتي عشرة مرة، وجواري سابحات في البحار، وأشباه رجال، ونساء عاشقاتٌ للنّساء... لا أعرف ماذا أقول، فعيناي قد أظلمت". 

وهذه القصص ليست إلا تعبيرًا عن خيال الرّحالة الفرنسيين المدونة في مذكراتهم. ومن خلال هذه الكتب والمذكرات والصّور صِيغت سيناريوهات المسلسلات التي تجسّد هذه الحياة الخيالية "العابثة" للسّلاطين. وقد انتشرت كالنّار في الهشيم، ودخلت كل بيت عربي. وبما أن النّاس لا يكلّفون أنفسهم مشقّة التفكير والتمييز بين ما هو صحيح وما هو افتراء، فقد ذهب الظن عند أغلب من يشاهد هذه الأفلام والمسلسلات إلى أنّ ما يُصور هو الحقيقة. وقد يحتاج ترميم الصّورة وتوضيح الحقيقة إلى جهد عظيم وبالشّكل نفسه أيضا. فما أفسدته الأفلام والمسلسلات لا يصلحه إلا عمل من جنسه، فتأثير وسائل الإعلام لا يخفى على أحد، والنّاس في العالم العربي عمومًا مُنصرفون عن الكِتاب ولا يقرأون إلا قليلا.

صورة لنساء تركيات بالقرب من جامع آياصوفيا المحاذي لقصر طوب قابي. عام 1888م، (مكتبة الكونغرس الأمريكية).

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس