فيصل القاسم - أورينت 

لا يمكن لتركيا بأي حال من الأحوال أن تـُقدم على إسقاط طائرة روسية على الحدود مع سوريا لو لم تأخذ ضوءًا أخضر من أمريكا أولًا، ومن حلف الناتو الذي هي عضو فيه ثانيًا. فلو حصل أي صدام لاحقًا مع الروس لا بد أن يتدخل الحلف بطريقة أو بأخرى دفاعًا عن واحد من أهم أعضائه. ولا شك أن تركيا كانت تعتقد بصفتها محمية من الحلف أنها قادرة على مواجهة روسيا جويًا، لأنها تتمتع في نهاية النهار بحماية أطلسية. لكن الأيام أثبتت أن تركيا ربما تعرضت لخديعة أمريكية مفضوحة، فحصلت على موافقة أمريكية لمواجهة الروس فوق الأجواء السورية التركية.

لكن الأمريكيين على ما يبدو كانوا يريدون الإيقاع بتركيا وتوريطها في صراع خطير مع روسيا، ثم يتركونها وشأنها. ولو نظرنا إلى ردود فعل أمريكا ومعها حلف الناتو في أعقاب إسقاط الطائرة والحملة الروسية اللاحقة على تركيا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لوجدنا أن الأمريكيين وبقية أعضاء حلف الناتو كانوا يلعبون لعبة قذرة مع الأتراك، وإلا لما تجرأت روسيا على تركيا بهذه القوة والفظاظة.

ولعل أكبر دليل على أن الأمريكيين كانوا يضمرون الشر لتركيا عندما ورطوها مع روسيا في حادثة الطائرة، أن المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية فوجئت لا بل ذهلت من التقارب الروسي التركي. وقد أكدت وزارة الخارجية الأمريكية أنها ليست على أدنى علم باعتذار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنظيره الروسي فلاديمير بوتين على حادث إسقاط أنقرة الطائرة الحربية الروسية قبل سبعة أشهر.

وقالت إليزابيت تيرودو الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأمريكية: "لم نر سوى بيان المتحدث الرسمي باسم الكرملين". والملفت في تصريح الناطقة الأمريكية، أنها أدلت بتأكيداتها هذه في أعقاب إعلان الرئيس التركي شخصيا أنه قد بعث برسالة إلى نظيره الروسي، في خطوة تهدف إلى "إزالة السلبيات التي تشوب العلاقات" بين أنقرة وموسكو. وقالت المتحدثة للصحفيين: "إذا ما تبيّن لدينا أي مستجدات بهذا الشأن سوف أطلعكم عليها"، مشيرة إلى أنها ليست على أدنى علم بما إذا كانت أنقرة قد شاورت الحكومة الأمريكية قبل قيامها بهذه الخطوة، أي الاعتذار لروسيا. ولو كانت واشنطن منخرطة بشكل أو بآخر بخطوة تركيا الودية تجاه روسيا، كما يقول موقع روسيا اليوم،  لأظهرت اعتذار أردوغان لروسيا، على أنه "نصر إضافي تحرزه الدبلوماسية الأمريكية".

واضح تمامًا من التصريحات الأمريكية المتفاجئة والمذهولة من التقارب الروسي التركي أن الأتراك تصرفوا هذه المرة بعيدًا عن أي مشاورات مع حليفتهم المزعومة أمريكا. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأتراك ربما باتوا لا يثقون أبدًا في المواقف والوعود الأمريكية، فلم تكتف واشنطن بالمماطلة في طلبات تركيا لإقامة منطقة آمنة على حدودها مع سوريا، بل وصل الأمر بالأمريكيين إلى توريط تركيا مع الروس ومن ثم تركتها تواجه الجبروت الروسي لوحدها. ولا ننسى كيف أن أمريكا وأعضاء آخرين من حلف الناتو كانوا قد سحبوا بطاريات صواريخ باتريوت من الحدود التركية بعد التدخل الروسي في سوريا، وكأنهم يعطون روسيا الضوء الأخضر لتفعل ما تشاء على حدود تركيا. 

لو وقف حلف الناتو وقفة صارمة إلى جانب تركيا بعد صراعها مع روسيا، لما كان الروس قد تجرأوا على تركيا بهذه الغطرسة، ولما استهدف الطيران الروسي جبل التركمان ومدينة حلب تحديدًا بوصفها مجالًا حيويًا تركيًا. لاحظوا أن الحملة الروسية على حلب تأجلت بعد الاتصال بين أردوغان وبوتين. لقد تفاجاً الكثيرون من ترك تركيا وحيدة في مواجهة العنجهية الروسية.

وضاح تمامًا أن الأتراك تعلموا درساً قاسياً من الخذلان الأمريكي والناتوي الأخير. لهذا جاء الاتصال بين الأتراك والروس بعيداً عن أي علم أمريكي، وربما وجدت القيادة التركية أن الاعتذار لروسيا حفاظًا على المصالح التركية أفضل وأقل ضررًا من المراهنة على حليف غدار. ولا ندري إذا سيكون رد الفعل التركي على الموقف الأمريكي المخزي مزيدًا من التقارب مع الروس نكاية بمن خذلوها. وكأن تركيا تقول للأمريكيين والأوربيين: فهمنا لعبتكم جيدًا.

عن الكاتب

د. فيصل القاسم

إعلامي وكاتب بريطاني سوري، مقدم برنامج الاتجاه المعاكس على قناة الجزيرة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس