م. معين نعيم - خاص ترك برس

عاشت تركيا الانقلاب الذي توقع حدوثه دون توقع موعده عدد من الخبراء خاصة في ظل التحذيرات التي كانت أقرب للتخوف منها للتوقع، في حين كان المعترضون على هذا الاحتمال يحتجون بمجلس الشورى العسكري الذي كان سيعقد في بداية شهر أغسطس/ آب القادم، وأنه سيحيل للتقاعد عددا كبيرا من الضباط والقيادات المشتبه بقربهم من تنظيم الدولة الموازية الموالية لفتح الله غولن، المصنف إرهابيا في تركيا، ولكن، وبعد ليلة الخامس عشر من يوليو/ تموز لم يبق هناك مكان للنقاش، فقد حدث الانقلاب ولكنه لم ينجح وأفشل على يد الشعب وبدعم من الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة من مخابرات وشرطة وجزء من أجهزة الجيش، والتي انقسمت بين منقلب ومؤيد للنظام الشرعي، ولكن ورغم مرور الزوبعة القوية من محاولة الانقلاب لكن الجيش التركي بل المنظومة العسكرية التركية بوضعها الحالي حبلى بمحاولات انقلاب أخرى تخبو وتطفو بين حين وآخر، وهذا يوحي بالحاجة لتغيير جذري في بنية وعقيدة الجيش والقوات المسلحة التركية.

والتغيير البنيوي ـ وهو ما بدأ ـ والذي يكون بتغيير مراكز القوة أو توزيعها في مراكز متعددة، ولكن التغيير العقائدي يحتاج لتغيير فهم القوات المسلحة في تركيا لدورها ووظيفتها بشكل يتناسب مع التغيير الدستوري الذي تم قبل سنوات حيث أن القوات المسلحة التركية منذ تأسيس الجمهورية وحتى قبل سنوات كانت تعتبر وبنص الدستور أن من صميم مهامها حماية والمحافظة على علمانية وديمقراطية الدولة ورفاهية وأمن المواطن داخل تركيا وكل هذه المفاهيم كانت تفسرها القيادة العسكرية بطريقتها الخاصة وبما يخدم مصالحها وقراراتها المستقبلية أو الانقلابية، وقد شاهدنا ذلك في كل الانقلابات العسكرية التركية السابقة، فبعضها اتهمت الحكومة بالإهمال في الحفاظ على ديمقراطية وعلمانية الدولة رغم أن أحدا لم يكن يهدد هذه العلمانية أو الديمقراطية، بل كانت مطلبا للسلطة المنتخبة لتحمي نفسها من القوات المسلحة.

وأخرى اتهمت فيها الحكومة بالتقصير في حماية أمن المواطن وانتشار العنف والفوضى ليتبين في التقارير اللاحقة أن كل الأحداث كانت عبارة عن ألاعيب مفتعلة من قبل الاستخبارات العسكرية وبأمر وترتيب رئاسة الجيش ولكن بعد التعديل الدستوري الذي تم عام 2013 للمادة 35 من الدستور أصبحت مهمة الجيش هو حماية الدولة من الأخطار الخارجية فقط وتنفيذ المهام العسكرية خارج الحدود بشرط أن يعطيه البرلمان الصلاحية بذلك.

لكن محاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت تفيد أن هناك جزءا ليس باليسير في الجيش لم يقتنع ولم يقبل بالدور المرسوم له أو أنه ما زال يطمح للبقاء في موقع الآمر الناهي على كل سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية، وأنها ما زالت تؤمن أنه يمكن أن يكون للجيش موقع خارج الإطار الذي رسمه له الدستور الجديد وأنه صاحب الحق في إعادة الحكومة والسياسة التركية للموقع الذي يعتقد أنه هو المكان المناسب والسليم وفي هذه العقيدة العسكرية تكمن المشكلة الحقيقية وهي عقيدة الجيش وقناعاته.

قد لا تكون هناك فرصة أمام الحكومة التركية والدولة أفضل من الفرصة الحالية التي أفشل فيها الانقلاب ووقف الشارع خلف الدولة ضد الإنقلابيين، وأصبح الجيش في أضعف مراحل الدفاع عن موقفه بوجه الإرادة السياسية والشعبية لتغيير التركيبة العملياتية للجيش على المدى القصير، ووضع الضوابط واتخاذ القرارات للتغيير الفكري والعقيدة العسكرية للجيش والقوات المسلحة في تركيا.

فالعملية التكتيكية السريعة تهدف الدولة منها لتوزيع القوة الضاربة في الدولة على أكثر من مركز وقيادة كي لا يسمح لتيار معين إن استطاع السيطرة على مركز من هذه المراكز السيطرة على الدولة أو القيام بأي محاولة للانقلاب فعلى سبيل المثال وأثناء كتابة هذا المقال صدر القرار المتوقع بإلحاق قوات الدرك التي يصل تعدادها لأكثر من 190 ألفا وقوات خفر السواحل التي يصل تعدادها إلى حوالي 5000 بوزارة الداخلية، أي أنها ستأتمر بأمر شخصية مدنية تابعة لوزير الداخلية وليست عسكرية كما هو الحال الآن، مما سيضعف القوات المسلحة من حيث العدد ويدعم وزارة الداخلية بقوة تفوق مجموع ما لديها من عناصر مسلحة بكثير خاصة وأن قوات الدرك تعتبر أفضل من حيث التسلح من معظم أجهزة الشرطة إن استثنينا من ذلك القوة الخاصة في الشرطة.

أما على صعيد لواء حماية القصر الجمهوري فقد تم إلغاؤه، حيث اتهم عدد مهم من عناصره بالولاء لتنظيم الدولة الموازية وتم استبداله مؤقتا بقوة خاصة من الشرطة، لكن الحديث في الكواليس يدور عن تشكيل جهاز أمني جديد مهمته حماية كل المواقع الهامة في الدولة كالقصر الجمهوري وقصر الرئاسة والبرلمان وغيرها وهذه القوة من المتوقع أن تكون على مستوى عال من التدريب والتسليح بما يكفي لصد هجمات عسكرية برية وحتى جوية، وسترتبط هذه القوة برئاسة الجمهورية أو وزارة الدفاع مباشرة وهذا الجهاز إن تم إقراره فسيصنع على عين الحكومة ويتم اختيار عناصره بعناية فائقة ويكون ذراع القوة الثالث مع الجيش والشرطة والتي يدور الحديث عن رفع كفاءة سلاح وحدتها الخاصة وتعداد عناصرها في الفترة القادمة أي أن ميزان القوة لن يبقى في يد الجيش وحده.

كل هذا على الصعيد العملياتي السريع للحيلولة دون عودة تكتلات تنظيمية، ولكن على المدى البعيد فإن هذا التغيير لن يكون كافيا لتصحيح بوصلة الجيش وعقيدته ولهذا السبب فإن على الدولة تجفيف منابع الفكر القديم في الجيش وتصعيد القادة العسكريين ممن يؤمنون بمدنية الدولة ويقبلون بقيادة المنتخب لمن تم تعيينه كموظف لمهمة معينة مهما كانت هذه المهمة، وفي هذا المجال يدور الحديث عن خطوات استراتيجية وهامة يمكن أن تتخذها الدولة كإغلاق مؤقت للكليات والمدارس الحربية لسببين: إعادة النظر في من يدرس من الطلبة وفحص نزاهة حصوله على مقعده بعد تسريبات واعترافات أن التنظيم الموازي كان يسرب عبر الضباط التابعين له في هذه المدارس الامتحانات لأعضاء التنظيم للسيطرة على غالبية المقاعد فيها مما يضمن للجماعة السيطرة المستقبلية على الجيش وإغلاق هذه المدارس ولو بشكل مؤقت والتحقيق الشامل في أحقية من يدرسون فيها بمقاعدهم وهذا سيقطع الطريق على المخطط القائم لكن المناهج والتربية العسكرية في هذه الكليات تحتاج لإعادة النظر في مناهج التربية العسكرية وطرق التدريس على صعيد آخر في نفس الخطوة فإن أحد أهم معاقل تزويد التنظيم الموازي بالقوة في الجيش الكلية الطبية الحربية التي تتحكم بتقارير اللياقة العسكرية للطيران وعناصر القوات الخاصة كي تصبح منتجة لرجال وضباط ينفذون المهام الدستورية للجيش ولا يقبلون بالخروج عنها.

ولكن هذه الخطوات ليست كافية لحماية الدولة من تغول العسكر فتركيا التي تربى مواطنوها منذ ما قبل الجمهورية على قدسية العسكر والثقة المطلقة بهم ليس من السهل أن تغير وعي المدنيين فيها فما بالك بالعسكريين، لذلك فإن عملا طويل المدى ودؤوبا تحتاجه الدولة التركية لتغيير الوعي الجماهيري تجاه دور العسكر، وفي نفس الوقت فإن العنصر المحوري في هذا التغيير هو زيادة إيمان وقناعة المواطن بمدنية الدولة وديمقراطيتها وهذا الأمر هو الذي سينقل تركيا إلى مستوى أعلى من الديمقراطية والحريات.

كل هذه الخطوات وغيرها على صعيد المجتمع التركي يجب أن تهدف لترسيخ مفهوم المدنية والديمقراطية في المجتمع مما سينتج عنه جيش يؤمن أفراده أن سبب وجودهم هو خدمة المجتمع وتنفيذ قرارات ممثليه من قوى سياسية منتخبة في دولة يحكمها القانون.

عن الكاتب

م. معين نعيم

باحث وكاتب مختص في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس