سعيد الحاج - الجزيرة نت

بعد 11 عاما من رفض مجلس الأمة التركي السماح لقوات التحالف الدولي باستخدام الأراضي التركية خلال الحرب على العراق، تأتي موافقته الحالية على تفويض الحكومة التركية بإرسال القوات المسلحة التركية واستخدام قوات عسكرية أجنبية للأراضي التركية لتفتح الباب واسعا على أسئلة عديدة تتعلق بالأهداف والمسارات والنتائج.

دور فاعل

ذلك أن الموقف التركي تبدل بنسبة 180 درجة بعد تحرير الرهائن الأتراك من يد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، حيث انطلق عقال الدبلوماسية التركية في توصيفه كمنظمة إرهابية بعد زوال الخطر المباشر على حياتهم، إضافة لتصريحات عديدة على رأسها كلمة رئيس الجمهورية قبل توجهه لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تؤكد مشاركة "فاعلة" لتركيا في التحالف الدولي المتشكل حديثا، والتخلي تماما عن مصطلحات "الدور السلبي" أو الدعم اللوجستي والإنساني.

فإضافة إلى تخلصها من قيد المحتجزين، ترى تركيا في التطورات الميدانية المتلاحقة تهديدا لأمنها القومي، ذلك أن المعارك تدور الآن في منطقة كوباني ذات الأغلبية الكردية (عين العرب بالتسمية العربية) القريبة من حدودها، وسيعني سقوطها بيد داعش وصول الأخيرة إلى منطقة تماس مباشر معها.

من ناحية أخرى، يبدو حصار التنظيم لضريح "سليمان شاه" في حلب نقطة توتر كبيرة لأنقرة، فالضريح هو المنطقة الجغرافية الوحيدة خارج الحدود التركية (عدا عن السفارات والقنصليات) التي يعتبرها الدستور "أرضا تركية" وتحرسها فرقة من الجيش التركي قوامها 50 جنديا داخل الأراضي السورية، مما يستوجب الرد على أي اعتداء عليه.

أهداف تركية

لكن التفويض الذي أعطاه مجلس الأمة للحكومة بأغلبية 298 صوتا في مقابل 98 رفضا، لا يعني بالضرورة انصهار تركيا في التحالف الدولي لتحقيق الأهداف المرسومة خارجيا فقط، بل تلوح في الأفق أهداف خاصة بتركيا يبوح بها ما بين سطور المذكرة التي صدرت.

فلم يفت على المراقبين تركيز المذكرة على النظام السوري أكثر من "داعش" التي يفترض أنها سبب استصدار التفويض، متهمة إياه بدعم المجموعات الإرهابية وتشجيعها على التوجه نحو الحدود التركية، وبذلك يشكل النظام الذي "فقد مشروعيته" وفق المذكرة خطرا على الأمن القومي التركي. 

ولئن قالت المصادر الحكومية إن النص يتناول "أي تهديد أو عملية تضر بالأمن القومي التركي"، فإن المعارضة وخاصة حزب الشعب الجمهوري رأى فيها توجها لإسقاط الأسد أكثر من مواجهة "الإرهاب"، الأمر الذي دفعه لرفض المذكرة، رغم ضغطه المستمر على الحكومة لمحاربة التنظيم.

من ناحية أخرى، تشي العمومية والشمولية في النص بالكثير، فهي حين تتكلم عن خطر الإرهاب تشير إلى "كل المجموعات الإرهابية" في سوريا والعراق، بما يفتح الأفق واسعا أمام الحكومة التركية لأي سيناريو محتمل في البلدين، كما أن النص الجديد يختلف عن مذكرة الأول من مارس/آذار 2003 بعدم تحديد سقف زمني أو عددي للقوات الأجنبية، إضافة لعدم تحديد دول بعينها والاكتفاء بالإشارة إلى "قوات عسكرية أجنبية"، الأمر الذي يمكن اعتباره إشارة إلى إمكانية احتضان وتدريب قوات معارضة للأسد على الأراضي التركية سعيا لإسقاطه.

ردود الفعل 

ورغم أن المذكرة عبارة عن مجرد تمديد ودمج لمذكرتين سابقتين ومنفصلتين لكل من العراق وسوريا، إلا أنها تحمل بوادر موقف تركي متجدد ومفتوح على آفاق كثيرة، لم تتأخر القوى الإقليمية والدولية في تلقف إشاراته.

الولايات المتحدة الأميركية التي تقود التحالف الدولي عبرت عن سعادتها بتفويض مجلس الشعب، واعتبرت أن "الوقت قد حان للتحرك" بعد أن تفهمت بطء التفاعل التركي معها بسبب الرهائن المحتجزين لدى داعش. لكن السؤال يبقى مطروحا حول مدى تفاهم الطرفين على الأهداف والعمليات التي ستشارك فيها تركيا، سيما وأن عمليات القصف مستمرة يوميا منذ فترة طويلة على حدود تركيا حتى قبل موافقتها، وفي ظل تباين واضح بين الحليفين إزاء الموقف من النظام السوري والمنطقة العازلة مثلا.

أما إيران، الجار القوي والحليف الأبرز لبشار الأسد في المعادلة الميدانية، فلم تتأخر على لسان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف في "تنبيه" نظيره التركي إلى ضرورة عدم زيادة التوتر في المنطقة، وألا يكون من ضمن مخططات تركيا استهداف دمشق، والاكتفاء بالأهداف المعلنة من محاربة "الإرهاب". ومن نافلة القول أن أنقرة في غنى عن أي مواجهة مباشرة -عسكرية أو غير عسكرية- مع طهران، سيما بدون غطاء ومساعدة بل ومشاركة التحالف ككل.

ماذا بعد التفويض؟

من البديهي في عالم السياسة أن تحدد النصوص الحدود الدنيا لا سقوف الحد الأعلى للفعل السياسي، وعليه فإن هذه الوثيقة التي تلحظ جاهزية تركيا وحكومتها "للرد" على أي تهديد لأمنها القومي، تفتح الباب على مصراعيه أمام أي تحرك تريده تركيا خارج حدودها، ووفق ما تحدده مصالحها.

ولئن صرح وزير الدفاع التركي عصمت يلماظ بأنه "لا يجب توقع تحرك تركي سريع ومباشر" بعد التفويض، وأن تركيا ستستثمره فقط في حالة الدفاع عن نفسها وحدودها، إلا أن النص العام والفضفاض يعطي تركيا مساحة واسعة من المناورة والفعل. يشير إلى هذه المساحة تصريح أردوغان أنه "في ظل الأزمات التي تمر بها منطقتنا لا يمكن أن نبقى مقيدين أو مترددين"، كما يوضحها كلام رئيس الوزراء داود أوغلو عن "إستيراتيجية تركية كاملة وجاهزة" لمواجهة كافة الاحتمالات، وتؤكدها مناورات القوات المسلحة التركية حاليا والتي شملت "محاكاة حرب حقيقية". 

ويمكننا في هذا الصدد، رصد ثلاثة ملفات في غاية الحساسية والأولوية لأنقرة: الأول، المنطقة العازلة أو الآمنة على الحدود التركية السورية، والتي تريد منها تركيا حماية حدودها من أي عمليات هجومية من نظام الأسد أو داعش، واستيعاب موجات اللاجئين، واستعمالها كنقطة ارتكاز أو منطلق لأي عمل عسكري بري قادم. 

ويشير تصريح الناطقة باسم الخارجية الأميركية جين ساكي أنهم "لا يناقشون الأمر بفعالية" إلى فشل أنقرة حتى اللحظة في إقناع حلفائها برؤيتها، وعليه فيبدو أن تركيا تتجه نحو إنجاز الأمر بقرارها الذاتي وإمكاناتها المحلية، وهو ما يفسر تأكيد الساسة الأتراك مؤخرا أن الأمر لا يحتاج إلى قرار جديد من مجلس الأمن، وأن القرار رقم 688 لعام 1991 يشكل غطاء قانونيا لهذه المنطقة ذات الأهداف الإنسانية. 

الثاني، حماية حدودها من تقدم "داعش" نحوها، إذ تجري المعارك حاليا على مقربة منها بين التنظيم من جهة وبين المجموعات الكردية من جهة أخرى، كما يبرز ضريح سليمان شاه في حلب كعنوان بارز لأي تحرك تركي عسكري. وتجدر هنا الإشارة إلى تسريب أخبار عن خطة تركية جاهزة للتفعيل إذا ما تم المساس بالضريح أو القوة الحارسة له، تتضمن طائرات F16 تصل المكان خلال دقائق، وفرقة كاملة على أهبة الاستعداد، إضافة إلى طائرات بلا طيار، وقوة صاروخية داعمة.

 

الثالث، توازنات وتأثيرات المعارك الدائرة على عملية السلام مع الأكراد داخل تركيا، ذلك أن تحذير أكثر من مسؤول كردي من فشل العملية إذا ما سقطت كوباني بيد داعش دفع رئيس الحكومة إلى التأكيد على أن تركيا "ستفعل كل ما يلزم" حتى لا يحصل ذلك، بيد أن الأخيرة تخشى أن يؤدي انتصار واضح للأكراد إلى تصلب موقفهم أو تواصلهم سياسيا وجغرافيا واستراتيجيا مع أكراد العراق (خاصة في حال حصلوا على أسلحة ثقيلة)، الأمر الذي يهدد عملية السلام برمتها.

في المشهد العام يبدو أن مذكرة التفويض أعطت أنقرة فرصة مساومة قوية مع التحالف الدولي وفي مقدمته الولايات المتحدة لقبول المنطقة الآمنة على حدودها، حيث ترى تركيا أن المجتمع الدولي يتجه لتفهم مقاربتها بضرورة الحل الشامل لأزمات المنطقة وعدم الاكتفاء بمكافحة النتائج (داعش) عسكريا. بهذا المعنى -فيما يبدو- تستشرف تركيا فرصة تاريخية بدخولها الحلف للعمل على تحقيق حجر الأساس في سياستها الخارجية منذ سنوات وهو إسقاط نظام الأسد. 

ونستطيع في هذا السياق أن نفهم كلام داود أوغلو عن عدم قبول تركيا "تحديد مصير كل من سوريا والعراق بدون وجود آليات القرار التركية".

بيد أن أنقرة تخشى من منظومة ثلاثية الأبعاد قد تهدد مصالحها وأمنها القومي بدل تأمينهما، أولها مستنقع الحرب البرية الذي لا تريد تركيا التورط به وترغب في الاكتفاء بالضربات الجوية والمنطقة العازلة، وثانيها الحذر من أي مواجهة إقليمية أو دولية مع حلفاء دمشق ولذلك فقد تسعى لتدريب وتأهيل الفصائل العسكرية المعارضة لتعمل على الأرض.

أما ثالث هذه المنظومة فهو التنبه للأهداف والمآلات بعيدة المدى للتحالف الدولي والذي قد تؤدي استطالة حربه إلى تقويض مصالح تركيا المتمثلة في الاستقرار والتنمية الاقتصادية بما يعود سلبا على دور تركيا ومكانتها مستقبلا.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس