د. وسيم بكراكي - خاص ترك برس

لم يكن السابع من آب يوما عاديا في تاريخ تركيا ابداً، فهو اليوم الذي سطر احداثاً لم يكن لأحد أن يتخيلها ليس في الماضي البعيد فحسب بل لربما قبل شهر واحد من هذا اليوم...

لن أثقل عليكم بالحديث عن تفاصيل الكلمات الخطابية في مهرجان الديموقراطية وتأبين شهداء الخامس عشر من تموز وسلسلة الأحداث لهذا اليوم فلعل الكثير منكم قد اضطلع عليها مباشرة عبر الترجمات الفورية على شاشات التلفزة والقنوات الفضائية العربية منها والتركية. 

ولن أتحدث إليكم عن المواقف العالمية المنبهرة مما رأته اليوم فباعتقادي أن ذهول الغرب سيطول ويطول ويطول...

ولكنني سأكتب مختصراً بعض الأحداث الأوائل التي شهدها العالم والتاريخ التركي للمرة الأولى منذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك. .. 

أولا: إن ما ميز هذا اليوم دون أدنى شك هو بالدرجة الأولى أن مهرجان الديموقراطية وتأبين الشهداء هذا لم يكن مهرجاناً يقتصر على 5 مليون مشارك تجمهر في ساحة اليني كابي في اسطنبول وحدها فحسب بل إنه المهرجان الأول من نوعه الذي تمت متابعته في ميادين 80 محافظة تركية مختلفة، وهو ما يظهر ضخامة المشاركة التي لا يمكن أبدا حصرها في 5 ملايين تمكنت من الوصول إلى هذا الميدان... فقد أثبت الشعب التركي اليوم أنه شعب يؤمن بدولته دولة واحدة بقلب واحد وراية واحدة وقيادة واحدة.. بل أكاد أجزم لكم أن معظم من لم يتمكن من الحضور إلى أحد ميادين هذا المهرجان قد شارك متابعاً له عبر شاشة التلفاز أو الانترنت او الراديو... 

ثانيا: لقد تميز هذا اليوم بظهور قادة الأحزاب السياسية الكبرى الثلاث جنباً إلى جنب مع رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان... وهو الأمر الذي لم يكن لأحد أن يتوقع حصوله ولا حتى في المنام كما يقول المثل... ليس ذلك فحسب، بل لقد جلس جميع هؤلاء وشربوا من إبريق شاي واحد واعتلوا منصة واحدة وخاطبوا شعبا واحدا يحمل علماً واحداً بهتافات واحدة وقلب واحد ذابت فيه التوجهات السياسية وخلافاتهم ليعلوا صوت الوطن قبل كل شيء. ولم يكن هناك في المشهد السياسي فئة غائبة الا حزب الشعب اليساري الكردي المنشأ والمؤيد لحزب العمال الكردستاني رمز الإرهاب والإجرام في تركيا... نعم لقد وقف اليوم كمال كلتشدار أوغلو وألقى خطابه أمام الملايين التي حشدت تحت راية الديموقراطية وشهداء الحرية... وهو الخطاب الوحيد ربما الذي لم يهاجم فيه صراحة حزب العدالة والتنمية أو شخص رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان... وإن لم تخل كلمته من بعض الغمز واللمز... 

كما وقف قبله رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي ليلقي كلمة هو الآخر لعلها تكون من أشرف الكلمات والخطابات لهذه الحركة التي يشهد لها بالوطنية والعزة والكرامة... 

ثم وقف وعلى نفس المنصة ونفس اليوم ونفس الجمهور رئيس حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء التركي بن علي يلديريم وتكلم هو الآخر في مشهد لن يغيب عن أذهان أبناء هذا الشعب سنين طويلة يتحدث فيها الشعب عن يوم اللحمة ويوم اجتمع فيه جميع هؤلاء في يوم توج بكلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان...

ثالثاً: لم يكن لأحد أن يصدق يوماً ينزل فيه مؤيدوا مظاهرات التقسيم وحديقة النزهة ليصفقوا مؤيدي لهذا اليوم كمثال خالد إيرغينتش (السلطان سليمان)  وزوجته برغوزيل كوريل (القاضية حبيبة القبضاي) وكيفانتش تاتليتوغ (مهند) وغيرهم من عشرات ومئات الممثلين الذين شاركوا يوماً مؤيدين لمظاهرات التنديد بأردوغان وسياساته وها هم اليوم يقفون مصفقين يتباهون بصورهم في يوم الحشر التركي العظيم...أضف إلى هؤلاء العديد من مشاهير الرياضة والفن...

رابعا:على الرغم من أن برنامج هذا اليوم لم يتضمن هذا الأمر، تفاجأت جماهير الشعب التركي اليوم برئيس الأركان التركي خلوصي آكار يعتلي منصة السياسية ليكون أول قائد جيش تركي يقف مخاطباً الشعب في مهرجان شعبي حاشد... وبرغم أن صعوده وإلقاء الكلمة أمام حشود الشعب هو بحد ذاته حدث لم تشهده تركيا من قبل فإن محتوى خطابه كان أكثر عجاباً ومفاجأة للكثير من الناس... فهل يعقل أن قائد ذلك الجيش العلماني الشهير سيصعد ويخاطب الشعب مطمئناً وواصفاً جيشه بأنه جيش محمد، الجيش المحمدي الذي هو لأجل خدمة الشعب وحماية الشعب ورضى الشعب... هذا الشعب الذي أعاد للجمهورية عزتها وكرامتها التي حاول البعض سلبها يوم الخامس عشر من تموز...

وبقدر هذه المعاني الضخمة التي صدرت على لسان قائد الجيش التركي بقدر ما كانت هتافات الشعب قوية ومعبرة وقوة... بل لقد اضطر آكار إلى قطع خطابه مرات عديدة لشكر الشعب على هذه الهتافات وهذا الزخم والترحيب... لقد ردد المتظاهرون بصوت واحد: ها هو رئيس أركاننا وهذا هو جيشنا... و رددوا أيضا: أكبر الجيوش جيوشنا... 

خامساً: لا يكاد أحد إلا وعلق بإعجاب على هذا الحدث العظيم الذي كان في بداية المهرجان وتعمدت ذكره في النهاية... نعم، لقد كان هذا المهرجان معرضاً لحدث آخر هو الأول من نوعه أيضاً في مثل هذه المهرجانات حيث ابتدأ قبل النشيد الوطني بقراءة من القرآن الكريم بصوت قارئين اثنين تناوبا على قراءة القرآن الكريم مبتدئين بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين. ولا تحسبن للذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. ...

ومن ثم تقدم رئيس الشؤون الدينية (مفتي الجمهورية) وأعتلى المنصة ليدعو للشهداء بالقبول والرحمة...في مشهدين سيكتب كل منهما بروعة وبراعة وإعجاب... 

اخيراً، لعل ما حصل اليوم يمكننا أن نختصره بصورة العلم التركي متوسطاً رجب طيب أردوغان من جهة ومصطفى كمال أتاتورك من جهة أخرى... وكأنه تلك اللوحة التي تضع مؤسس الجمهورية الأولى من جهة ومؤسس الجمهورية الثانية رئيس الجمهورية الحالي الذي وعبر انتصاره على الإنقلاببين أصبح اليوم الأب الثاني لهذه الدولة وهذا الشعب....

عشتم وعاشت تركيا وعاشت بلادنا العربية والإسلامية في ديموقراطية وأمن وسلام....

عن الكاتب

د. وسيم بكراكي

كاتب لبناني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس