سعيد الحاج - إضاءات 

في الرابع عشر من أغسطس/آب الماضي، احتفل العدالة والتنمية التركي بمرور 15 عاماً على تأسيسه، رغم أن الاحتفال كان رمزياً جداً احتراماً للظروف التي تمر بها البلاد بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/تموز المنصرم. ورغم مرور المناسبة دون ضجة إعلامية كبيرة، إلا أنها تستحق منا بعض التوقف أمامها. فنحن لا نتحدث عن حزب عادي في مسيرة تركيا الحديثة، بل عن حزب حاكم في دولة «كانت» غير مستقرة مثل تركيا منذ 2002 فاز في عشر منافسات انتخابية متتالية، الأمر الذي جعل منه شبه ظاهرة سياسية ونموذجاً حاول الكثيرون الاقتداء به، لكن دون دراسة معمقة في بعض الأحيان.

 في مستهل الحديث، ينبغي أن أشير إلى ثلاثة أمور أعتبرها مهمة في هذا السياق:

الأول: أنني لا أفضل تسمية «النموذج التركي» وأحبذ دائماً الحديث عن «التجربة»، لأن الأول يوحي بظاهرة ناجزة متكاملة وجامدة قد انتهت ويمكن «اقتباسها» أو تقليدها، بينما تشير الثانية إلى عملية حيوية مستمرة يمكن «الاستفادة» منها.

الثاني: أن هذه السطور ليست دراسة أو ورقة بحثية معمقة تحاول تحليل التجربة التركية، بقدر ما هي أفكار وخواطر باحث يتابعها منذ سنوات طويلة، يرى في النقاط التي سيتم سردها فائدة للمتابعين في العالم العربي تحديداً، في إيجاز تفرضه مساحة المقال دون إخلال بالسياق قدر الإمكان.

الثالث: لا يمكن أبداً إجراء تقييم موضوعي متوازن للتجربة التركية وبالتالي الاستفادة منها دون وضعها في سياقها التاريخي وظروفها الطبيعية وخصوصيتها التركية، أما المقارنات المتسرعة والتقييمات الاختزالية فلا تقدم الكثير على هذا الصعيد.

مجالات التميز

ثمة الكثير مما يمكن سرده من إنجازات لحزب العدالة والتنمية، وقد كُتِبتْ عنها دراساتٌ عديدة وبعض الكتب، لكنني أعتقد أن أهم نطاقات التميز والإنجاز لدى الحزب أربعة، هي:

أ- التنمية الاقتصادية: حيث تسلم الحزب تركيا مفلسة ومستدينة من صندوق النقد الدولي، فنقلها سريعاً – في سنوات حكمه فترة قصيرة في عمر الدول – إلى مصاف الدول سريعة النمو، محققاً أرقاماً يشار لها بالبنان، حيث تضاعف الناتج القومي ومعدل دخل الفرد وتراجع التضخم ونسبة البطالة وسدت تركيا دينها لصندوق النقد الدولي قبل أن تعرض عليه أن تقرضه.

ب- الإصلاحات الديمقراطية: بعد فترة وجيزة من الإنجازات الاقتصادية التي لامست حياة المواطن العادية فأمنت للحزب بعض الشرعية والالتفاف الشعبي، بدأ العدالة والتنمية بملامسة القضايا الشائكة بشكل متدرج، فقدم خلال 14 عاماً من الحكم حلولاً لعدد من الأزمات المزمنة في البلاد مثل الحريات الشخصية وحقوق الأقليات ومشكلة حظر الحجاب وصولاً للمشكلة الكردية التي قطع فيها شوطاً مهماً قبل أن تنهار عملية السلام مع العمال الكردستاني ويستأنف الأخير عملياته العسكرية منذ يوليو/تموز 2015.

ج- السياسة الخارجية: فقد أضحت تركيا مع العدالة والتنمية، في ظل الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والرؤية الواضحة لقيادتها، دولة إقليمية فاعلة ومؤثرة بل ومقبولة من مختلف دول المنطقة إلى ما قبل الثورات العربية، بسيرها على هدى نظريات «الخوجا» أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي وتصفير المشاكل والقوة الناعمة، وإن كانت دخلت في حالة من التراجع والإخفاق منذ سنوات تحاول معها الاستدارة والتعويض.

د- الصورة أو النموذج: رغم أن الولايات المتحدة هي من روجت لما أسمته «النموذج التركي» الجامع بين الديمقراطية والإسلام لحث دول العالم العربي والإسلامي على اقتفاء أثره، ورغم النقاشات العديدة التي سادت وتسود الفضاءات السياسية والفكرية العربية حول مفهوم الحداثة والدولة الحديثة والخصوصية الإسلامية، إلا أن الحزب قد قدم فعلاً تجربة ألهمت القوى السياسية العربية، سيما الإسلامية منها. لهذه التجربة ما لها وما عليها، لكنها على الأقل أعطت الأمل بالتغيير وإمكانية الفعل والتأثير، ولعله ليس من باب المبالغة ذكر تجربة العدالة والتنمية التركي من ضمن العوامل العديدة التي مهدت الطريق للثورات العربية، سيما وأن الكثير من الإسلاميين العرب، حركات وأفراداً، يعتبرون الحزب «حركة إسلامية» رغم تأكيد نظامه الداخلي وأدبياته وتصريحات قياداته بأنه حزب «ديمقراطي محافظ».

الإنجازات

في مقاربة سريعة لأربعة عشر عاماً من الحكم في تركيا، يمكن سرد الإنجازات التالية للعدالة والتنمية دون كثير من التفصيل:

1- الاستقرار السياسي، بعد فترة من الفوضى التي أسقطت عدة حكومات ائتلافية حكم الحزب منفرداً وما زال، الأمر الذي أعطاه القدرة على تنفيذ رؤيته واستراتيجياته وخططه بالحد الأدنى من المعوقات. وقد استطاع الحزب أن يحافظ على شعبيته ونسبة التصويت المرتفعة له – باستثناء انتخابات يونيو/حزيران 2015 التي نجح في إعادتها – بعكس النظريات السياسية التي تتحدث عن ترهل الأحزاب الحاكمة وتآكل شعبيتها مع الوقت.

2- التنمية الاقتصادية، التي تطرقنا لها آنفاً، والتي ما كان لها أن تتحقق دون الاستقرار السياسي والتخطيط السليم والعمل الدؤوب، بقيادة صانع النهضة الاقتصادية التركية الوزير السابق علي باباجان. واليوم نرى تركيا كثاني أسرع اقتصاد نام على مستوى العالم (بعد الصين) وكعضو فاعل ومتفاعل في منظمة العشرين الاقتصادية العالمية.

3- تفكيك نظم الوصاية، وهو مصطلح يقصد به في تركيا تكتلات أو تيارات أو مجموعة اتجاهات سياسية واقتصادية وأمنية كانت تصوغ الحياة السياسية التركية، ويمكن تسميتها تبسيطاً بالدولة العميقة. لقد واجه الحزب منذ البدايات الامبراطوريات الإعلامية التي حاولت تشويهه وإسقاطه كما فعلت مع حزب الرفاه بقيادة الراحل أربكان، كما واجه الوصاية الاقتصادية عبر محاربة بعض أباطرة الاقتصاد، وقلم أظافر المؤسسة العسكرية على مراحل متعددة كان آخرها «فرصة» المحاولة الانقلابية الفاشلة، كما يواجه منذ سنوات تغلغل «الكيان الموازي» في مؤسسات الدولة المختلفة.

عوامل النجاح

لم تأت مسيرة الحزب الحافلة بالإنجازات من فراغ، وإنما توفرت لها منظومة متكاملة من العوامل المساعدة على العمل وتحقيق الأهداف، أهمها:

أولاً، القيادة: ما زالت تركيا دولة مشرقية في تاريخها السياسي و«صوفية» في منظومتها المجتمعية، الأمر الذي يزيد من دور القائد أو الزعيم، ورغم أن الأدوار القيادية مهمة في كل المستويات، إلا أن أحداً لا يمكنه إنكار دور أردوغان في مسيرة الحزب وتركيا. يتمتع الرجل بالكفاءة والكاريزما والكثير من المهارات القيادية إضافة إلى حب واحترام معظم شعبه، فضلاً عن شجاعة وحزم يظهرهما في الأزمات المتلاحقة التي تتعرض لها تركيا في تميز واضح عن أغلب رفاق دربه، كما رأينا في قضايا الفساد عام 2013 والانقلاب الفاشل مؤخراً.

ثانياً، الخلفية الفكرية: ثمة رؤية ناظمة لعمل حزب العدالة والتنمية وضع بذورها المنظر داود أوغلو تتعلق باستثنائية اللحظة التاريخة – ما بعد الحرب الباردة – وتستنهض إمكانات وممكنات تركيا لصنع مكانتها وفقاً لتاريخها وجغرافيتها، وتتناغم مع موروثها الحضاري وتحترم هويتها، وتسعى لجعلها «دولة مركز» في محيطها المتشارك معها تاريخياً وجغرافياً والمتواصل معها ثقافياً واقتصادياً.

ثالثاً، الرؤية والتخطيط: جمع العدالة والتنمية بين رؤى بعيدة المدى – لها رمزيتها – مثل مئوية تأسيس الجمهورية في 2023، أو مرور 500 عام على فتح إسطنبول/القسطنطينية في 2043، أو ألفية معركة ملاذكرد في 2071، وبين الخطط التنفيذية قصيرة المدى. وقد بنيت هذه الخطط، التي ناسبت الخصوصية التركية بعد دراسة عدة تجارب، بناء على مسح ودراسة واقع قامت بها مراكز بحثية أنشأها الحزب لهذا الغرض، وشخصت المشاكل الرئيسة لتركيا، والتي ساعدته ليرفع شعار محاربة الفقر والفساد والمحظورات في عمله السياسي.

رابعاً، التدرج: لقد بدأ الحزب مسيرته برؤية واضحة لتحييد الخصوم تجنباً لمصير سابقيه من أحزاب «الحركة الإسلامية» التركية بقيادة أربكان، فقدم تطمينات داخلية وخارجية على كونه حزباً خدماتياً سيركز على مشاكل البلاد الاقتصادية بعد أن «خلع قميص» أربكان. وفي كل الملفات سابقة وتالية الذكر، كان العمل من خلال خطوات يبني بعضها على بعض ديدنَ عمل الحزب الحاكم.

خامساً، تجربة شعب لا نخبة: أتت قيادات العدالة والتنمية من صفوف الشعب وكانت تعرف معاناته فلم يكن من الصعب عليها العمل على حل مشاكله، كما أن التجربة التركية لا يمكن اختزالها بالعمل الحكومي، فقد رفعت الحكومة سقف الحريات وشجعت المجتمع المدني التركي ممثلاً بالبلديات ومؤسسات الحكم المحلي والمنظمات الاقتصادية والمجتمعية التي ساهمت بحمل جزء من العبء عن الحكومة إضافة إلى اطلاعها الأفضل على المشاكل المحلية وكيفية حلها، ولعله من المعروف أن أردوغان وعدداً من قيادات الحزب أتوا من تجربة البلديات قبل تأسيس الحزب.

سادساً، بين الفرد والمجموعة: بفعل الثقافة المقدسة للفرد، يكثر في البلاد العربية الحديث عن مسيرة أردوغان بينما تغفل أسماء وسياقات مهمة بين طيات التجربة التركية. فرغم كل ما يمكن قوله عن الرجل وإمكاناته ودوره، وقد سبقنا القول في ذلك، إلا أن التجربة التركية لم تكن يوماً تجربة أردوغان وحده. فقد جاء الرجل أولاً من تيار مجتمعي إسلامي – محافظ سمح له بالعمل والظهور وإثبات جدارته وفيه تقدم في العمل الحزبي. لاحقاً، ضمت النواة الأولى للحزب، ثم المجموعة التي أثرت التجربة، أسماء لامعة مثل عبدالله جول الشخصية الإدارية الهادئة القادرة على التواصل الإيجابي حتى مع الخصوم، وبولند أرينتش الحقوقي المخضرم ذي الخطاب العقلاني، وأحمد داود أوغلو المنظر السياسي والمفكر الاستراتيجي، وعلي باباجان عبقري الاقتصاد، وحاقان فيدان الصندوق الأسود وذراع أردوغان اليمنى، وغيرهم الكثير والكثير في مختلف المناصب والدوائر والمستويات. ولعل من تابع التجربة عن كثب، سيما في سنواتها الأولى، يرى حجم الشغف بالإنجاز وحسن اختيار فرق العمل وفقاً للخبرة والكفاءة.السلبيات والتحديات

لا يعني كل ما سبق أن صفحة الحزب ناصعة البياض خالية من السلبيات والتحديات، بل تبقى في نهاية المطاف تجربة بشرية عليها كما لها، لكن ربما ساهم في إظهارها وتلميعها الواقع التركي بالغ السوء الذي حسنته والمحيط العربي الموغل في التراجع الذي جاورته وعايشته. وفق المساحة التي تسمح بها عجالة المقال، يمكن تلمس السلبيات التالية في التجربة التركية حتى الآن:

1- غياب المشروع الفكري: رغم بعض المتغيرات على مستوى الخطاب مؤخراً، ما زال الحزب بعيداً عن الأدلجة ولصيقاً أكثر بفكرة الحزب الجماهيري الخدماتي ومفتقداً لنواة صلبة كبيرة من الجماهير. وهو ما يعني أن الإنجاز – أو بالأحرى مدى إدراك الناخب للإنجاز، وذلك فارق مهم – هو معيار الاستمرار في الحكم، وقد كاد الحزب يدفع ثمن ذلك – رغم نجاحه – في انتخابات البرلمان 2015.

2- المركزية الشديدة في الإدارة: قاد أردوغان ويقود الحزب والحكومة والبلاد بمركزية شديدة جعلت التجربة تتمحور حول شخصه بشكل لافت في محطات متعددة، في حين تم تهميش قيادات كبيرة ووازنة لها دورها الكبير في التجربة وما وصلت إليه (ممن ذكرناهم آنفا)، وهي طريقة إدارة تفيد في «الضبط» لكنها لا تخلو من مخاطر كبيرة. ولعل في الخطة الانقلابية الأخيرة، التي ركزت على أردوغان وفيدان اعتقالاً أو اغتيالاً دون غيرهما، مثال جيد على مدى خطورة الأمر.

3- الليبرالية الاقتصادية: تنتهج تركيا في عهد العدالة والتنمية مبادئ النيوليبرالية الاقتصادية واقتصاد السوق وثمة علامات استفهام عديدة حول آلية تنزيل المنجزات الاقتصادية بالتساوي على أفراد الشعب، وهو مساق يحتاج إلى كثير من الدراسة والشرح ولا يمكن أن يفيه هذا المقال حقه.

4- البراغماتية الشديدة: سيما في السياسة الخارجية وسرعة التنقل بين المحاور وتبديل المواقف، وهي ميزة في تجنب الصدام والأزمات والمعارك غير المرغوب في خوضها، لكنها أيضاً تؤثر على هوية البلاد وبوصلة سياستها الخارجية وصورتها في الخارج.

ومن التحديات المستقبلية التي ينبغي على الحزب التعامل معها:

1- الكيان الموازي، الذي لا يمكن القول بانتهاء أو انتفاء خطره رغم كل ما فعلته الحكومة، وقد سبق أن فصلت في ذلك بمقال سابق.

2- المحيط اللاهب، والأزمات التي تحيط بتركيا من سوريا إلى العراق إلى غيرهما، مما له تأثير مباشر على التجربة ببعديها الداخلي والخارجي.

3- الخلاف مع الغرب، الذي وصل إلى درجات غير مسبوقة من التوتر مع الحلفاء التقليديين لأنقرة، وهو ما يعني أن «الاستهداف» سيستمر وإن كان بأشكال ومستويات مختلفة.

4- المشكلة الكردية، التي رآها الحزب – محقاً – العقبة الأكبر في مسيرة تركيا الجديدة بتمزيقها للنسيج المجتمعي وفتحها الباب على التدخلات الخارجية فضلاً عن خسائرها البشرية والاقتصادية.

5- سؤال الخلافة، أي مرحلة ما بعد أردوغان، في ظل المركزية الشديدة التي شرحناها، واستبعاد القيادات القادرة على إكمال المسيرة بعده وفي مقدمتها جول  وداود أوغلو، ولعل الانقلاب الفاشل كان فرصة لإظهار معدنيهما ثم ترطيب الأجواء معهما مرة أخرى، رغم أن التحدي أكبر من ذلك بكثير.

أخيراً، وفي خلاصة سريعة، ثمة الكثير والكثير مما ينبغي دراسته بعمق والاستفادة العربية منه في التجربة التركية الحديثة في عهد العدالة والتنمية، ولكن يجب الحذر من التقييمات السطحية التي لا تراعي خصوصية التجربة ولا الفوارق الكبيرة بينها كسياق إصلاح متدرج في ظل استقرار نسبي وبين الواقع العربي التي أتى بعد ثورة وثورة مضادة ولا زال غارقاً في ظلمات وارتدادات المرحلة الانتقالية.

 

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس