غالب دالاي – قرار - ترجمة وتحرير ترك برس

رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان وفي اثناء زيارة للولايات المتحدة الأمريكية كان قد أوضح أن لا مكان لبشار الأسد في المرحلة الانتقالية، هذا التصريح كشف عن الموقف التركي ووضع نقطة النهاية للعديد من التخمينات والتوقعات بخصوص موقف أنقرة من العديد من القضايا. أردوغان الذي خصص جزءًا كبيرًا من الخطاب الافتتاحي للمجلس البرلماني المنعقد يوم السبت المنصرم للحديث عن السياسة الخارجية أوضح أثناء حديثه أن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي ولن تغيب عن طاولة المفاوضات بخصوص الموصل وهو ما يشير إلى رؤية سياسة نشيطة أو (قبيل النشيطة) بخصوص العلاقات الخارجية.

لا شك في أن إعادة التفكر والنظر في هذا الخطاب وفي الأحداث الأخيرة التي عايشناها في نطاق السياسة الخارجية تنطوي على أهمية كبيرة لفهم الأمور وتوقع الآتي. فعلى عكس التوقعات لم يسفر تغير رئيس الوزراء التركي عن تغيير دراماتيكي كبير في طبيعة السياسة الخارجية المنتهجة بخصوص المسألة السورية. إذ نشهد كل يوم أحداثًا وأحاديث تحمل إشارة إلى بطلان الادعاءات المتزايدة حول "إعادة ضبط" السياسة الخارجية، إضافة إلى ذلك يزداد تعمق تركيا يوميا في السياسة السورية وهي في الواقع تملك جيش على الأراضي السورية.

الى أي مدى ستصل تركيا في تعمقها في القضية السورية هو أمر تتم مناقشته الآن خصوصا مع زيادة الوعي والإدراك بأن تحسن العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع روسيا لا يعني بحث الأخيرة عن باب لحل الأزمة السورية. فقد أصبح من الواضح أن مساعي القوى الكبرى لتحسين العلاقات ومساعي هذه الدول لتنقيح وتحسين توقعاتها السياسية والسلطوية هما أمران مختلفان كليا.

فروسيا اليوم تطبق في حلب "نموذج غروزني" الذي تتميز به. بمعنى أنها تسعى إلى تحطيم المدينة وإخضاعها وإلى إركاع أهالي المدينة من خلال حرب مخيفة لا تعترف بأي حدود أو قوانين. لكن يبدو أن ما يدور في حلب لا يلقى صدىً كافيًا في الإعلام ولا يتم تغطية ما يحدث في تلك المدينة بالقدر الواجب إما كنتيجة "للاتفاقات" الروسية الجديدة وثمرة والعلاقات الروسية في "الفترة الحديثة" أو لأن الفاعل المباشر لهذه المذابح وتلك الهمجية يتم تجاهله ولا يخضع للبحث والتمحيص.

أثناء فترة تغيير رئيس الوزراء التركي تناولت وسائل الإعلام الحديث عن مفاهيم عدة منها إعادة النظر وتنقيح و"إعادة ضبط" السياسة الخارجية. لكن النقطة التي آلت إليها الأمور أوضحت أن لا أفعال ولا تحركات حقيقية تقابل هذه المصطلحات وتلك الادعاءات. فالمباحثات بشأن إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل مستمرة خلف الكواليس ومنذ فترة طويلة وكذلك الأمر مع روسيا إذ إن الحوارات واللقاءات قد بدأت منذ اليوم الأول لنشوب أزمة الطائرة الروسية وهو ما كان معلوم للجميع.

أحد الأمور التي تغيرت خلال هذه الأشهر الستة هو الموقف من مصر إذ يمكن القول إن هناك مباحثات وجهود لإعادة تطبيع العلاقات من مصر بالقدر الكافي للحديث عن وجود مثل هذه الجهود لا أكثر. وإذا كان لا بد من وصف الوضع بدون تلاعب بالألفاظ فعندها يجب القول إن الحديث عن الإصرار التركي لتحسين وتطبيع العلاقة مع مصر أمر خاطئ وغير صحيح. إذ لا يملك أحد الإجابة الشافية أو توقع ما يمكن أن يقدمه نظام السيسي لتركيا خصوصا أن السيسي ونظامه لا يتمتعان بأي مصداقية على المستوى الدولي بل يشكلان مثالا على "الاستثمارات الخاسرة" لبعض دول المنطقة. فالسياسة المصرية اليوم وتأثيرها الدولي أضعف وأقل شأنًا من العديد من دول الخليج الصغيرة، أضف إلى ذلك أن نظام السيسي وإن كان يقدم سياسة حكيمة مناسبة لتحسين العلاقات المصرية مع كل من الإمارات العربية والمملكة السعودية إلا أنه لم يقدم أي سياسات حكيمة أو رشيدة على المستوى المصري ولم يتمتع بالحكمة في معالجة قضايا الشارع المصري ذاته. لقد أصبح السيسي ونظامه عبئًا وثقلًا حتى على الدول التي دعمته وتدعم وجوده. ففي حين أن المكاسب التي ستحققها مصر من تحسين العلاقات مع تركيا واضحة ومعروفة إلا أن المكاسب التركية من تحسن هذه العلاقات مجهولة. ومن غير المنطقي أن يتم إنشاء سياسة خارجية على أساس التمتع بعلاقات جيدة مع الجميع. خصوصا إذا كان موضع الحديث أحد أهم دول المنطقة والتي شهدت العلاقات الخارجية معها منعطفًا تاريخيًا كبيرًا...

حسنا إذا، أليس هناك أي تغيرات على السياسة الخارجية؟ من المحتمل أن التغيرات في السياسة الخارجية لا تعدو نطاق الحديث والكلام. إن الانتقادات التي انطوت على أن تركيا تتبع سياسة خارجية لا تتناسب مع قدرتها هي انتقادات حقيقية ومحقة وقد يكون لطبيعة الربيع العربي دور وتأثير صغير على ذلك. فالربيع العربي الذي ولِدَ بداية على أنه مجموعة من المطالب السياسية كان موضع الحديث والخطاب للعديد من الأطراف الفاعلة وعلى رأسها تركيا. ففي تلك الفترة كان الصراع عبارة عن نماذج سياسية تحمل طلبات معينة، لكن بمرور الزمن بدأ الربيع العربي يخرج من كينونته مطالب ونماذج سياسية ليتحول إلى صراع عسكري وقتال، تغير لون المسألة وطبيعتها غيب إمكانية استخدام الأطراف المؤثرة للخطاب الموجه، السياسة الخارجية التركية عايشت هذه الفترة وما شهدتها من تغيرات وتأثرت بها كذلك.

إن الانتقادات القائمة على عدم الانتظام وعدم التناسب بين الإمكانيات/ والخطاب التركي وإن كانت محقة إلا أنها لم تكن حقيقية بما يكفي لتقديم إجابة شافية عن السؤال القائل "ما هي القضية/ المشكلة". إن محاولة تسويق هذه القضية على أنها السبب الرئيس خلف الأزمة التي تعاني منها السياسة الخارجية يتشابه جدا مع تصريحات الغرب التي طفت إلى السطح لتكشف تحويل الغرب وفي غضون أعوام قليلة لقضية داعش من قضية مناطقية ومحلية إلى قضية وظاهرة عالمية لتصبح خطرا يهدد حدود مجموعة من الدول على رأسها تركيا. وبالمثل فان هذه الادعاءات والانتقادات تحاول أن تسلط الضوء على الحقائق السياسية التركية المتعلقة بالمنطقة لتبدو وكأنها السبب وراء الأزمة السياسية والاجتماعية في المنطقة.

والحقيقة أنه لو تربع اليوم على عرش السلطة في تركيا أكثر الحكومات حيادية لما أمكنها أن تمسك نفسها عن التدخل في الشؤون الخارجية للمنطقة أو التدخل في الصراعات والأحداث التي تقلب الأمور رأسا على عقب في المنطقة. فلو حاولنا أن ندير ظهورنا لأحداث المنطقة ومنعنا أنفسنا من التدخل بما يجري فان التطورات ستجبرنا شئنا أم أبينا أن نكون طرف في بعض النقاشات والنزاعات، فلو لم نذهب إلى المنطقة وما فيها من نزاعات فإن المنطقة بكل ما فيها ستأتي إلينا. أما محاولة تبرير وجود اللاجئين في تركيا على أنه خطأ في السياسة التركية المتبعة بخصوص سوريا أو على أنه خطأ داود أوغلو وحبه "للمغامرات" أمر غير مقبول إذ كيف يمكن شرح وتبرير وجود ملايين اللاجئين في كل من لبنان والأردن وكردستان العراق؟

يجب أن نتخلى عن فكرة شرح المسألة والقضايا في المنطقة بطريقة مبسطة وسهلة انطلاقا من أساس لاعبين وقوى مؤثرة منفردة وأحادية. فالمنطقة تمر بمرحلة وفترة انتقالية قد تستمر لعشرات الأعوام. ولا توجد في هذه الفترة إمكانية للقيام بأي عمل بلا مقابل ودون فواتير. ولهذا يجب أن تتحلى السياسة الخارجية بالمرونة اللازمة وأن تتبع الحذر والدقة بشكل يمكنها من تسخير الظروف الجديدة بما يتناسب معها. ولا بد من جعل هذه المرونة جزءًا من رؤية سياسية خارجية تتعلق بالمنطقة ولا بد كذلك من إقرار هذه السياسة وتمكينها وإرساء قواعدها بشكل يضمن ثباتها وإلا فإن السياسة التركية ستتقلب مع الرياح وستتخذ شكلًا جديدًا مع كل متغير طارئ وستتحول إلى عضو يتلون بالصبغة التي توجبها عليه الاتفاقيات الجديدة بشكل يضمن رضى شركائه وستكون أفعالها وأراؤها ردة فعل لما تقوم به تلك الأطراف. ولهذا السبب فإن رفض رئيس الوزراء بن علي لنظام الأسد قياسا على رفض كل من مبارك والقذافي هو سياسة صحيحة. ولو وضعنا الحقائق المعيارية والتصوراتية جانبا، فإننا لا نملك أي دليل على أن سياسة اليوم (رفض نظام الأسد) ستقدم لتركيا وللمصالح الوطنية التركية خدمات أهم وأكبر.

عن الكاتب

غالب دالاي

مدير البحث في منتدى الشرق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس