د. علي حسين باكير - القبس 

خلال الأسبوع الماضي اندلعت حرب كلاميّة بين الحكومتين العراقية والتركيّة فيما يتعلق بتواجد قوات تركيّة في معسكر بعشيقة في قضاء الموصل بمحافظة نينوى شمال العراق، وقد استدعى كل طرف سفير الطرف الآخر للاحتجاج، تبع ذلك تحذير من قبل رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي يقول فيه انّ تركيا تجازف بإشعال حرب إقليميّة، مؤكداً على أنّ السيادة العراقية خط أحمر.

ليست هذه المرّة الاولى الذي تقوم بها الحكومة العراقيّة باستخدام ملف بعشيقة لإثارة الجلبة مع الجانب التركي، فقد فعلت الأمر نفسه نهاية 2015 ، ثم سكتت عن الأمر لعام كامل تقريبا ثمّ عادت اليوم لتفعل الأمر نفسه، وهو ما يشير الى وجود دوافع موسميّة والى أنّ هناك من يحرّك هذا الملف في الاستحقاقات الإقليميّة المهمة.

أصابع الاتهام تشير في حقيقة الأمر الى إيران، فالجميع يعلم أنّ العبادي لا يملك من الأمر شيئا، أمّا الجيش العراقي فهو غير موجود أصلا حتى يهدّد العبادي الدول المجاورة بحرب إقليمية، ولذلك ما يُفهم من تصريحاته هو الاستقواء بإيران وميليشياتها الطائفية في العراق.

في بداية شهر أكتوبر الحالي، أوردت مجلّة نيوزويك تقريراً تحت عنوان «الخامنئي يحوّل العراق الى دولة عميلة لإيران»، وقد تحدّث التقرير بالتفصيل عن مضاعفة إيران لميليشياتها الطائفيّة في العراق ثلاث مرّات خلال السنوات القليلة الماضية، وأنّ حوالي 100 ألف مقاتل من هذه الميليشيات يعملون لمصلحتها الآن، 80 ألف منهم يتم تدريبهم وتسليحهم من قبل الحرس الثوري الإيراني مع وجود خطط لتحويل هذه الميليشيات الى حرس ثوري عراقي بعد عملية الموصل!

مشكلة الحشد

عندما تمّ إنشاء معسكر بعشيقة بعلم الحكومة العراقية ووزارة الدفاع كان هناك مصلحة للعبادي وجماعته بالموافقة لكي يقولوا انّ سياساتهم غير طائفية، وذلك بغرض الحصول على دعم التحالف الدولي ضد «داعش». لكن بعد أن حصلت الحكومة العراقية على هذا الدعم، وقويت شوكة ميليشيات جيش الحشد الشعبي التي تقودها إيران، لم يعد هناك حاجة لهذا القناع. التصريح الأخير لعبادي يؤكّد هذا التوجه، حيث أشار الى أنّ الحشد مسموح به دستوريا، وأنّ الحشد العشائري مجرّد مواطنين تطوعوا لمساندة القوات الأمنية لفترة معينة وسيتم الاستغناء عنهم لاحقا.

المشكلة الحقيقيّة في السجال الأخير تتعلّق بمعركة الموصل المرتقبة وليس بتواجد قوات تركية. خلال اللقاءات الخاصة التي جمعت مسؤولين سياسيين وعسكريين أتراك مع نظرائهم الأميركيين نهاية الشهر الماضي، قام الجانب التركي بتحذير الأميركيين من أنّ إشراك ميليشيات الحشد (التابعة لإيران) في معركة الموصل ستكون له عواقب وخيمة لناحية تعزيز الطائفيّة في العراق، ولناحية سياسات التغيير الديموغرافي الجاري تطبيقها في المنطقة.

وفي واحدٍ من هذه الاجتماعات، طلب الجانب التركي الضغط على حكومة العبادي لمنع دخول ميليشيات الحشد الى الموصل تحت ذريعة محاربة «داعش»، خاصّة أنّ ذلك يهدد بإمكانية تهجير مليون عراقي غالبيتهم الساحقة من العرب السنّة. كما طالب الجانب التركي في الاجتماع نفسه بإشراك الحشد الوطني (القوات العراقيّة السنّية التي تمّ الاتفاق سابقا على أن يقوم الجانب التركي بتدريبها لمحاربة تنظيم داعش هناك)، مبديا استعداد القوات المسلّحة التركيّة لدعم عملية التحرير عسكريا بشكل كامل.

توافق تركي – سعودي

ووفق المعلومات الخاصّة، فان الموقف التركي هذا كان قد تمّ تأكيده أيضا في الاجتماع الذي تمّ بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على هامش قمّة الدول العشرين في الصين في 3 سبتمبر الماضي، حيث تشاطر الطرفان الخوف من سياسات إيران الطائفيّة في المنطقة، وكذلك من دعم إيران للميليشيات المسلّحة التي لا تقل إرهاباً أو وحشية عن «داعش»، في محاولة من طهران لابتلاع العراق بالكامل.

وقد كان هذا الملف بالتحديد مثار نقاش مفصّل خلال اللقاءات الأخيرة بين الجانبين، إذ يعتبر الطرفان أنّ إشراك ميليشيات الحشد في عملية الموصل المرتقبة سيؤدي الى كارثة جديدة، وهو أمر مرفوض تماماً، والإصرار على تنفيذه يؤكّد الحقائق التي تشير الى عمليات تغيير ديموغرافي ذات طابع طائفي تقوم بها إيران في عدد من الدول لاسيما في سوريا والعراق.

موقف إدارة أوباما شجّع ايران وحكومة العبادي على التمادي، فهي لم تمنع الحكومة من الاعتماد على الحشد الشعبي الطائفي، وانتهى الأمر بأن تذهب العديد من المعدّات العسكرية والأسلحة الأميركية وحتى الدبابات والمدرعات الى هذه الميليشيات. اكتفت إدارة أوباما بنقل الرسالة مؤخراً دون الضغط على العبادي، حتى أنّها لم تستبعد مشاركة قائد فيلق القدس الإيراني الجنرال قاسم سليماني في المعارك القادمة وهو المدرج على لوائح العقوبات الأميركية والأممية.

المهندس يهدد

ولذلك لم يكن من المستغرب بعد أن مال موقف الإدارة الأميركية الى جانب حكومة العبادي، وبعد أن اعتبرت إيران أنّها المستهدف الأوّل من الموقف التركي أن يخرج جمال جعفر إبراهيم المعروف باسم أبو «مهدي المهندس» ليرسل تهديدا باسم ميليشيات الحشد الشعبي لتركيا واصفا إيّاها بأنّها قوة احتلال للعراق. المهندس يحمل الجنسية الإيرانية، وهو متهم بتفجير السفارتين الأميركية والفرنسية في الكويت في الثاني عشر من ديسمبر 1983، ولعب دوراً في تأسيس عصائب أهل الحق وحزب الله العراقي، ولذلك فقد كان من المثير للسخرية بالنسبة الى الجانب التركي أن يشير العبادي الى سيادة البلاد في معرض احتجاجه على وجود قوات تركية في معسكر بعشيقة في الوقت الذي تسيطر فيه إيران عملياً على العراق عسكريا عبر قواتها والميليشيات الطائفية التابعة لها، وسياسيا عبر نخبها التي أقامت في ايران لعقود طويلة.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس