جلال سلمي - خاص ترك برس

ظهرت تركيا خلال حقبة ثورات الربيع العربي بموقف الداعم والمساند لها، إلى أن أعلنها البعض أنها النموذج المثالي للديمقراطية والتنمية والتطور، ولكن بعد مرور فترة من الزمن ضعف الدور التركي حيال ثورات الربيع العربي، حتى بات السؤال الأكثر طرحا هو لماذا؟

لا يراود المتابع للشأن التركي الشك في أن الحكومة التركية رأت فعلاً في تجربتها نموذجاً برّاقاً يحتذى به من قبل بلاد ثورات الربيع العربي الحائرة والمتعطشة لنماذج تنموية ناجحة ومشابهة من حيث المقومات المادية والبشرية والجغرافية، لذا أخذت تجتهد في الترويج لتجربتها، إلا أن جهدها سرعان ما نفذ.

تتغير العوامل التي أضعفت الدور التركي الداعم والموجّه لثورات الربيع العربي، إلا أن سرد أهمها أمر ممكن، ولعل الثقل السياسي والاستراتيجي الذي تعاني منه تركيا جراء استمرار الأزمة السورية واتساع رقعة تأثيرها السلبي يُعد العامل الأساس الذي أضعف الدعم  التركي.

وفقاً لسلم الأولويات الإداري لا يمكن لأي كيان مؤسساتي أن يضع على رأس الأولويات سوى قضية واحدة،  والقضية الأولى بالنسبة إلى تركيا الآن هي القضية السورية التي تقضّ مضجعها باحتمالية تأسيس كيان كردي مستقل على حدودها الشمالية، فلا يمكن الترويج للتجربة في ظل وجود تهديدات استراتيجية، فكما يقال المرء لا يوجد في جوفه سوى قلب واحد، ولا يمكن لتركيا التركيز في أمرين كبيرين في آن واحد.

وتحكيماً لمبدأ تكلفة الفرصة البديلة الذي يقارن بين أمرين من حيث الأولوية والأقل تكلفة، نجد أن اهتمام تركيا في القضية السورية ربما يجنبها تكلفة باهظة قد تمنى بها في حين اهتمت بالترويج لتجربتها على حساب التطورات الجارية في سوريا، والتي أشارت إلى إمكانية رسم سايكس بيكو جديدة.

وقد يكون الافتقار إلى الاستعداد الداخلي فيما يتعلق بدعم ثورات الربيع العربي أحد الأسباب التي أضعفت عملية الدعم، فقد تعرضت تركيا لعدد كبير من الهزات الداخلية التي امتصت طاقتها الموجهة نحو الخارج، لتحتكرها على الصعيد الداخلي، ومن الأمثلة البينة على ذلك، عمليتا 17 و25 ديسمبر اللتان طفتا على السطح من خلال نشر جماعة غولن لعدد من التسجيلات المشوهة لسمعة الحزب الحاكم، إلى جانب اعتقال عدد كبير من عناصر الحزب والمقربين له. وفي ضوء ذلك، لا يمكن إغفال الضعف في الكوادر البشرية لدى تركيا، فالساعي لأن يكون دولة كبرى مؤثرة في وسط معين، لا بد من أن يزخر بكوادر بشرية مؤهلة لذلك، حيث لا يوجد مخرجات من دون مدخلات. تفتقر تركيا إلى الكوادر البشرية التي تتحدث اللغة العربية وتبرع في استقطاب رواد وجماهير الثورات سياسياً واقتصادياً وثقافياً، فقد روى لي أحد الباحثين، استناداً إلى أحد التقارير المتعلقة بالأمر، أن عدد متحدثي اللغة العربية في السلك الدبلوماسي التركي الفاعل في منطقة الوطن العرب 4 فقط.

ربما يقول أحدهم: إن التغلغل المذهبي شتّت الطاقة التركية بشكل كبير، وأفشل خططها الداعمة للثورات، وظهر ذلك جلّياً في العراق وسوريا واليمن، حيث بدأت تركيا تتحرك في هذه الدولة وفقاً لمبدأي الردع الذي تحاول تطبيقه ضد دول القطب الشيعي، والتحالف الذي تنفذه بالتعاون مع الدول المضادة لثورات الربيع العربي كالسعودية، لصد الخطر المذهبي الجيوسياسي التمددي للقطب المضاد، والذي أعاق دعم تركيا لثورات الربيع العربي وأخذها للتوافق مع الدول المضادة للثورات، ليشكل ذلك إعلان ضمني بتخليها عن الدعم للثورات التي عادت على المنطقة بالفوضى العارمة.

ولعل لعنصر المفاجأة المتمثل بظهور تنظيم إرهابي يُعرف باسم "داعش" أثر كبير في إقصاء تركيا عن دورها الداعم، فكما أسلفنا وفقاً لسلم الأولويات القومية تعدّ الجبهة الداخلية الأولوية الأهم لأي دولة، حيث تعرضت تركيا منذ ظهور داعش وحتى يومنا هذا لأكثر من 25 تفجيرا إرهابيا استهدف الأماكن السياحية والجماهير الكردية واليسارية وبعض المواطنين العلويين، ليظهر التوجيه الذي يتحرك في إطاره، والذي يرمي إلى إجهاض قطاع السياحة التركي إلى جانب تحريك النزعة القومية والمذهبية في تركيا، الأمر الذي أرغم تركيا على إعارة اهتمامها الأكبر لجبهتها الداخلية للإمساك بزمام الأمور قبل انهيار القطاع السياحي وظهور حرب داخلية قومية أو مذهبية.

عبّرت الكثير من الدول العربية عن موقفها المضاد والرافض لثورات الربيع العربي التغييرية وصمموا على موقفهم الداعم للوضع القائم بكافة مثالبه، وكان ذلك واضحا لمواطني دول الربيع العربي وغيرها من الدول، حيث ظهرت حرب الوكالة في مصر وليبيا ولم تستطع تركيا السير في مضمار هذه الحرب كقوة رادعة نظراً لافتقارها لنخبة سياسية فاعلة وقوية كانت قادرة على مواجهة عواصف الثورات المضادة العاتية، حيث كشفت ثورات الربيع العربي عن عدم توطين تركيا نفسها بخطط وأفكار قوية قادرة على التوافق وإيجاد سبل عملية للوقوف ضد أي عنصر يحاول سلب مكتسبات هذه الثورات.

تسير العلاقات الدولية وفقاً لمنهاج التنافسية المحتدمة لتحقيق المصالح القومية القائمة على النفوذ في الدول الأخرى، وتفضل الدول بشكل عام سياسة الردع والتفوق "يطلق عليها التنافسية المطلقة" على سياسة التوافق "التنافسية النسبية" في تحقيق تلك المصالح المذكورة، فالانفراد باللقمة خير من مشاركتها وفقاً للروح الأنانية للبشر الذين يديرون الدول ويؤثرون على مسار سياستها.

وفي إطار التنافسية الدولية المطلقة، لا يمكن القول: إن تركيا تستطيع منافسة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات الأمريكية المتحدة بشكل حاسم، فتلك الدول ماركات عالمية في الاحتلال وإدارة الشعوب الأخرى، فنجدهم يحصلون على مبتغاهم في السيطرة على دول الربيع العربي عبر السياسيتين الناعمة والصلبة بشكل خفي ومتكامل التخطيط، ولا تستطيع تركيا منافسة هذه الدول النافذة والقوية في الترويج لتجاربها بصرف النظر إن كانت متناغمة مع طموح المواطن العربي أم لا، فقد تلجأ هذه الدول إلى القوة لفرض سياستها من دون أن يستبطن أحد شواهد هذه القوة التي قد تستصدر قرارا من مجلس الأمن أو حلف الناتو للقيام بتدخل عسكري في منطقة ما، وتحت سقف قانوني دولي، أو إقصاء طرف ما عبر دعم الانقلابات العسكرية أو بوساطة الحروب الإعلامية النفسية أو اللجوء إلى غيرها من الوسائل التي تعجز قوة تركيا وأخلاقها السياسية عن استخدامها.

ثورات الربيع العربي طفت على السطح في فترة زمنية لم تكمل تركيا فيها تجربتها المنشودة بعد، فالتوقيت الخاص بهذه الثورات أيضاً أثر سلباً في دور تركيا الداعم لها، فتجربة تركيا التنموية والساعية للتحرر من أغلال الحكم العسكري والرامية إلى إعلاء هوية تركيا التاريخية والقومية لم تكتمل بعد، فالخنقات الاقتصادية ما زالت تهز أركان الاقتصاد التركي وما زالت تركيا معرضة لمحاولات انقلاب عسكرية والهوية التركية السياسية والاقتصادية والثقافية لم تحرز المعايير المطلوبة لجعلها تجربة يُحتذى بها، حيث إلى الآن لم يستقر النظام السياسي التركي المتأرجح ما بين الرئاسي أو البرلماني، وبراءات الاختراع والنمو الصناعي وشواهد التجارة الحرة لم تصل إلى المقام المطلوب، والتفوق الثقافي التركي المتنوع ما بين الهوية التعليمية والنموذج التدريسي والتطور الإعلامي الترويجي لتحقيق هيمنة ثقافية ذات درجة مرموقة حول العالم، وغيرها من الشواهد ما زالت محصورة في منطقة الشرق الأوسط وبعض دول البلقان فقط، وهذا يعني أن تركيا بحاجة إلى عدة سنوات أخرى لرسم تجربتها الناجحة، وعدم اكتمال تجربتها أسهم بشكل أو بأخر بإضعاف دورها الداعم لثورات الربيع العربي.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس