فخر الدين ألتون - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

في كتابه الخالد "الاستشراق" حل إدوارد سعيد إشكالية الهوية الغربية وعلاقتها بالعقلانية والفردية والتقدم المادي وديانات الشرق وتقاليده. ينتقد سعيد في كثير من أعماله الطريقة التي بنى بها الغرب نفسه انطلاقا من السمات السلبية التي رسمها للشرق، وبالتالي إضفاء الشرعية على هيمنته على العالم.

وعلى الرغم من كافة الانتقادات التي وجهها سعيد، فإن الواقع العملي الحالي لم يتغير، فحتى اليوم لا يزال الاتجاه الغالب على الأوساط الأكاديمية والإعلامية الغربية يتحدث من منظور المستشرق المتأصلة في داخلها منذ القرن التاسع عشر بالنظر إلى الشرق من وجهتها الخاصة.

ولسوء الحظ فإن التحليلات التي قدمت عن تركيا تشتمل أيضا على جانب من هذا المنظور، وتنعكس هذه الرؤية التي تغذت ونمت في وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية على الثقافة الشعبية وعالم السياسة. وعند النقطة التي وصلنا إليها ينظر إلى تركيا بوصفها بلدا "لم تتمكن من التغريب" أي أنها ترفضه. ووفقا لهذا المنظور، فعلى الرغم من أن تركيا اتخذت خطوات على طريق التغريب تحت قيادة  النخبة " المؤيدة للتغريب والحداثة" قبل الألفية الثانية، فإنها صارت بعد العقد الأول من هذه الألفية " بلدا مشرقيا"  مع وصول حزب العدالة والتنمية " ذي التوجه الإسلامي" إلى السلطة.

ووفقا لهذا المنظور أيضا، اتخذت تركيا خطوات مهمة ضمن " الإطار المؤسسي والأيديولوجي" على طريق التغريب حتى بداية الألفية، لكنها لم تقدر على نقل هذه المرحلة إلى الجماهير، وكان الادعاء أن الإطار" المؤسسي والعقلي والأيديولوجي" الذي طبق على مدى عقود بدأ يتعرض للضرر مع حزب العدالة والتنمية، وأن ما نقل إلى الجماهير هو "معاداة الغرب" .

إن صمويل هنتجتون بنظرته لتركيا على أنها " دولة منقسمة الهوية"  إنما يعكس النظرة السائدة إلى تركيا في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الغربية قبل بداية الألفية. وبحسب هنتجتون، فإن تركيا تقع جغرافيا بين " العالم الإسلامي" و " الغرب" لكن هذا ليس هو السبب في وصفه لتركيا بالدولة منقسة الهوية، فهو يرى أن تركيا منقسمة بين " النخب" التي تعد نفسها غربية ، وبين جماهير الشعب الذين يعدون أنفسهم "شرقيين مسلمين".

ومثلما سيتضح في الجدل الدائر في الغرب حول " الهوية التركية "، فإننا نواجه هنا إطارا تفسيريا يميز في صميمه بين العلماني والديني. اختار علماء الاجتماع الذين شاركوا في النقاش حول هوية تركية من خلال نموذج " التغريب"  تقييم التحديث في تركيا بوصفه " علمنة" ، والنظر إلى ثنائية  الانقسام بين حكومة علمانية وشعب ديني أساسا لهذا الطرح.

على أن هذا التقسيم لم يقيم في كثير من الأحيان بوصفه إشكاليا، بل على العكس تماما، حيث كان ينظر إلى تركيا على أنها " بلد نموذجي"  يمكن تصديره إلى الشرق الأوسط بوصفها بلدا سكانه مسلمون وحكومته علمانية. لكن السياسة العلمانية المتطرفة التي طبقت في تركيا تحولت على المدى الطويل لتكون جزءا من " أزمة الهوية التركية" .

لم يعد هناك أساس مادي لوصف تركيا بالبلد " منقسم الهوية " بعد عام 2000 ، حيث بدأت أولا إزالة التباين بين الحكومة والشعب من خلال سياسة حزب العدالة والتنمية، وثانيا أن الدينامية الجديدة في السياسة الخارجية التي تتبناها تركيا التي تؤكد على أنها قوة إقليمية، نأت بها عن منظور " الدولة العالقة بين العالم الإسلامي والغرب.

وبالمثل نظر إلى خيار تركيا "بالتحديث الجمعي" على أنه " متلازمة التشريق"  التي يعاني منها الغرب، فتركيا التي كانت في الرؤية الغربية " الدولة النموذج" تحولت إلى " الآخر" . صارت تركيا اليوم، ويا للأسف، في موقع الآخر بالنسبة للعالم الغربي، وهذا ما يفضي إليه التفكير الواقعي. ومن الواضح للعيان أن جذور الاستشراق تسعى إلى بناء هويتها الخاصة على حساب تركيا.

يحتاج الغربيون إلى النظر إلى تركيا من منظور واقعي وليس من منظور خيالي، وأن يقيموها من خلال الأولويات الاستراتيجية وليس التاريخية. وربما كان غياب الحصافة "العدل" في النظر إلى السياسة التركية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية هو ما أدى بالغربيين إلى هذه " التحيزات الثقافية" . وعندما يتخلص الغربيون من التحيزات الثقافية، سيرون الحقيقة المجردة بأن " النموذج الإمبريالي الغربي لتركيا " قد انهار، وأن تركيا قد بنت نموذجها الخاص. 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس