د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

لا يُخفي رجب طيّب أردوغان إعجابه بفكر الشّيخ راشد الغنوشي زعيم النّهضة التّونسية، وقد ذكر ذلك في مناسبات كثيرة، بل قال إنه يغبط الشّعب التونسي أن له مفكرًا وسياسيّا مثل الغنوشي. وعندما يزوره الغنوشي في تركيا يستقبله استقبال الرؤساء ويُفرَش له السّجاد الأحمر.  لقد تُرجمت كتب الغنوشي إلى اللّغة التّركية منذ سنوات، وحتى قبل أن تقوم الثّورة التّونسية، وكان أردوغان وعبد الله غُل معجبين بأفكار الغنوشي عن الحرّية والدّيمقراطية وحقوق الإنسان، في الوقت الذي كانت فيه أغلب أدبيات الإسلاميين لا تتوقف كثيرًا عند هذه المعاني، بل إنّ بعضها يَعتبر الدّيمقراطية مخالفةً للإسلام، وربما ضربًا من ضروب الكفر.

أردوغان كان تلميذًا للأستاذ الرّاحل نجم الدين أربكان، سار معه بعض الطّريق ثم اختلف معه في منهج التّغيير خصوصا في المجال الاجتماعي والسّياسي. فأربكان كان لا يتوانى عن توجيه النقد الشّديد والقاسي لمنافسيه على اعتبار أنّهم أعداء للدّين ويشكلّون خطرًا على الإسلام، والفئة التي يقصدها بخطابه كانت محصورة في أنصاره وهي الفئة المتديّنة الملتزمة عقديا بفكرته المتمثلة في فكرة "ملّي غوريش" أو الفكر الوطنيّ. كما أنه لم يكن على استعداد لاستخدام التكتيك السياسي أو البراغماتية السياسية، وهو ما كلفه الخروج من السلطة بانقلاب عسكري سنة 1997م والحرمان من النشاط السّياسي لمدة 5 سنوات وحلّ حزب الرفاه آنذاك.

أردوغان قام برفقة زملائه بمراجعة لمسيرتهم وانتهاج طريق مختلف في التعامل مع الخصوم والأصدقاء. وهنا كانت الاستفادة من فكر الشيخ راشد الغنوشي في ضرورة التعامل مع الآخر لا على أساس العقيدة بل على أساس المواطنة، والتركيز على موضوع الحرية للجميع دون تمييز، واعتبار الديمقراطية السبيل الأمثل للتغيير. الشيخ الغنوشي يؤكد دوما على قناعة راسخة عنده مفادها أن الإسلام مكون أساسي في هوية الشعوب الإسلامية وفي حركة التغيير الحضاري لكن من الخطإ أن نفرض الإسلام على الآخرين بالقوّة لأنّ ذلك لا يؤدي إلاّ إلى خلق شعُوب مشوّهة  في أفكارها وقناعاتها، ويكون تديّنها أقرب إلى النّفاق منه إلى التديّن الصادق. وجو الحرّية الحقيقية هو الذي تنشأ فيه الشّخصيات السويّة المتوازنة، وفي جوّ الحرية فقط يكون التّدين الصّادق الذي لا غشّ فيه. كما أنه لا يمكن أن تقنع أيا كان بفكرتك وهو خاوي البطن فارغ الجيب، فحفظ كرامة المواطن وسد حاجاته تأتي في مقدّمة الاهتمامات.

وبالفعل ركّزت سياسة حزب العدالة والتنمية على ما يمثل أولوية لدى الشعب التّركي، مثل العمل والصّحة والتعليم والخدمات الاجتماعية، وتم تأجيل القضايا السّاخنة مثل موضوع الحجاب ومحاسبة المفسدين إلى أن استتب له الوضع وأقنع شرائح واسعة من الشعب بإنجازاته.

السّياسة التي انتهجها أردوغان كانت تركّز على الوحدة الوطنية وعلى الخطاب الذي لا يميّز بين متدين وغيره، بحيث يكون الخطاب لجميع شرائح الشّعب وفئاته. وهذا بالطّبع جلب للحزب أنصارًا جددًا مع مرور الوقت خصوصًا من بين الشّباب الذي ليس له أي التزام ديني، وكذلك أنصارًا ممّن كانوا يتّهمونه في السّابق بأنه عميل للصّهيونية وللأمريكان أو أولئك الذين اتّهموه بأنه إسلاميّ متطرف يخفي أجندة سرية، لكن الأيام أثبتت أن ظنون الطرفين فيه كانت وهما وتخرّصات.

لكنّ الملاحظ أن الشّيخ راشد الغنوشي قد تأثر بدوره بالتّجربة الأردوغانية وتجربة حزب العدالة والتنمية في ثلاثة نقاط مهمة أكسبت حزب النهضة تفوقا ملحوظًا وشعبيّة مفاجئة في وقت كان من المفترض أن تتراجع أسهمه بعد تجربة قاسية في الحكم بسبب الوضع المحلّي والإقليمي والدّولي.

النقطة الأولى: أنّ الشيخ راشد ومن معه من رجال الحزب تجنّبوا الردّ على الاستفزازت التي تصدر من هناك وهناك، وخصوصًا من اليسار الذي بدا وكأنه بنا حملته الانتخابية على هجاء النّهضة والتّشنيع بها والتذكير بمساوئها في كل مناسبة، الشيء الذي أثار غضب كثير من التونسيين من هؤلاء من ناحية وجلب تعاطفهم مع النّهضة من ناحية ثانية.

النقطة الثانية: أن الحزب ركّز في حملته على ما يهمّ المشاغل اليومية للمواطن التّونسي، دون الإغراق في الوعود غير الواقعية، والبعد عن الجوانب الفكرية التي لا يفهمها النّاس ولا تهمّهم في الوقت الحالي على الأقل.

النقطة الثالثة: البعد عن الخطاب المشحون دينيّا، ما أعطى الانطباع بأن الحزب أصبح أكثر بحثا عن الإجماع وأكثر التحامًا بالنّاس بجميع توجهاتهم. فالخطاب المبني على العواطف الدّينية في العادة يُشعر الفئة غير الملتزمة وغير المتديّنة بأنها غير معنيّة بها أو أن الخطاب نفسه لا يشملها فتنأى بنفسها عن أصحابه. وقد لوحظ في الحملة الانتخابية الجارية الآن في البلاد حضور عدد لابأس به من النساء غير المحجّبات، وتصريح الكثير منهنّ بكل حماس أنّهن يدعمن الحزب ومعجبات به، وتخلّصن من مشاعر الخوف التي كانت تنتابهن من الحزب سابقًا.

لم يعد خطاب حزب النهضة موجّها إلى أنصار تقليديّين ملتزمين دينيا بل أصبح خطابًا سياسيا أكثر انفتاحا على بقية شرائح الشّعب بحيث لا يشعر أي مواطن بأنه مقصي أو غير معني به. وهذا التطور مهم جداً لأنه بعث برسائل طمأنة تغيب في العادة في خطابات الإسلاميين. 

وخلاصة القول أنّ تبادل التأثر بين الشيخ راشد الغنوشي ورجب طيب أردوغان يمكن التعبير عنه باختصار كالتالي؛ ما كان تلقّاه أردوغان نظريا من فكر الشّيخ راشد الغنوشي صاغه عمليّا وتطبيقيا في تجربة ناجحة على جميع المستويات في تركيا مستفيدًا من الأخطاء التي وقع فيها أستاذه أربكان من قبل، بينما استفاد الشّيخ راشد ومن ورائه حزب النّهضة من تجربة عمليّة لما كان يحمله هو نظريّا من فكر، فأدخل على الفكر السياسي في تونس نكهةً جديدة وبعدا وطنيّا جامعًا جنّب الحزب والبلاد مزالق خطيرة لم تسلم منها أغلب بلدان الربيع العربي.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس