منذر فؤاد - خاص ترك برس

تتساقط قطرات المطر لتبلل الأرض في جو بارد ينذر بشتاء قارص، بينما يواصل طيران الفاشيين الجدد القصف بلاهوادة، كما هو حال المدفعية التي يهز صوتها غفوة أمة علها تستفيق لتنظر ماذا يدور حولها، وترى كثافة الدخان المتصاعد الذي وصل الأرض بالسماء في مساحة لا تتجاوز أربعة كيلومترات مربعة غلب عليها صراخ الأطفال وأمهاتهم، الذي لم يكن كافيًا لتهتز شعرة بيضاء في رأس زعيم واحد فقط في عالم يتدثر برداء الإنسانية المزعوم.

حلب المدينة والتاريخ والإنسان تستباح على حين غفلة وتخاذل من قبل تتار العصر وهولاكو طهران المختبئ خلف عمامة سوداء حالكة مظلمة، أو قل من مغول العصر يقودهم جنكيز خان الذي يقيم في الكرملين، لا فرق بين الاثنين طالما الضحية لن تتغير، حلب الشهباء وأبناؤها الذين ولدوا فيها ذات يوم و يغادرونها اليوم إلى حيث لايعرفون هرباً من الموت إلى الموت أو بالأصح النفير إلى الله.

لا وقت للتفكير في حياة فانية لا تتعدى باب المنزل قبل أن تحوله مهارة الطيار إلى ركام، اكتب وصيتك الأخيرة عبر كيبورد هاتفك وانشرها علها تصل لمعارفك، فيقرؤون ما فيها ويدعون لك بالشهادة حتى لا يعتقلك الجلاد، وربما يكن دعاءهم في ساعة استجابة فيستجيب الله لهم ويرفعك إلى السماء، هذا هو حال من قرر البقاء تحت وطأة القهر والحصار والقصف، حتى يأتيه الموت ليريحه مما هو فيه، فهو إذن نفير إلى من لا يظلم عنده أحد.

من قرروا البقاء ينتظرون قيامتهم ومن قرروا المغادرة يساقون إلى الموت وهم ينظرون وفي كلتا الحالتين يستمر نزيف الدم على وقع قطرات الغيث التي تودًع حلب إلى أحضان أولاد ابن العلقمي الذين قدموا من خلف مرقد الحسين يبحثون عن ثأر قديم ويحملون رايات الدم المزعوم ويرددون هتاف الموت في سبيل آل البيت، فيموت الضمير وتسقط أمة في فخ الصمت المخزي، ومعها تسقط قيم الإنسانية.

نداءات الاستغاثة ذهبت في مهب الرياح الباردة، وبقي أنين المستضعفين تحت أنقاض المنازل التي دمرها العدوان الروسي الإيراني، والذين عجز الدفاع المدني عن إخراجهم، فضلًا عن رفع الجثث المتناثرة على شوارع الأحياء المحاصرة، ليبدو المشهد دمويًا بامتياز يعكس دموية من تخلوا عن حلب في عز انكسارها وتركوها لقمة سائغة لعصابات القرامطة الجدد، غير أن الجامع الأموي كان الكعبة هذه المرة، فلا فرق بينهم وبين أجدادهم غير سنوات من الزمن المتقلب.

السقوط الإعلامي في فخ الطائفية كان حاضرًا في لحظات المذبحة الفاجعة، ولم يكن مستغربًا أن يرتدي مقدم البرامج زي العصابة الغازية، أو أن يجلس المراسل حيث يجلس الداعية عند بوابة الجامع الأموي، غير أن الكاميرا غابت عن توثيق لحظات الذبح بالسكاكين، والرقص على الأشلاء، بينما بقيت غصّة الإغتصاب تؤرق سمعة نساء طاهرات فكان الانتحار شهادة حق أمام رب العالمين في زمن "جهاد النكاح" الذي ألصقوه زورًا وبهتانًا بحق ثورة شريفة خرجت من رحم العبودية لتبحث عن الحرية لا أكثر.

هنا صلاح الدين وسيف الدولة وقد أصبحا الملاذ الأخير لنحو مائة ألف مواطن خذلهم العرب، ولو وصل خبرهم إلى صلاح أو سيف الدولة لانتفض من قبره غضبًا لرعيته، ولن ينتظر الإذن من أحد، وهذا مايفعله الإنسان عندما يمتلك عزة النفس بعيدًا الرهانات الخاسرة، والارتهان للخارج.

ثمّة سؤال يدور في خلدي عمّا سيكتبه المؤرخون عن فاجعة حلب للأجيال القادمة، هل سيكتبون مثلًا: بينما كانت حلب وأحياؤها تتعرض لحملة بربرية ومذابح مروعة، كان المسلمون والعرب مشغولين بمتابعة الدوري الإسباني، وبرامج مسابقات الغناء المنحط، الله أعلم ماذا سيكتبون.

تهجير قسري أو قتل جماعي خياران لا ثالث لهما أمام جموع المحاصرين بعد جهود حثيثة وضغوط شعبية لوقف مذبحة بدت معالمها ترتسم من خلال إعدامات ميدانية، فلم يكن أمام الاهالي غير النجاة بأرواحهم بطريقة تليق بهم، وتجنب خوض معركة خاسرة ستنتهي حتماً بسقوط المدينة.

ساعات من الزمن كانت كفيلة بإعلان مصير الإتفاق التركي الروسي بشأن إخلاء المحاصرين، وتسليم المدينة، بسبب رغبة إيران وعصاباتها الطائفية بمواصلة المذبحة، بعد طرحها مطالب وشروطا جديدة الغرض منها إيصال رسالة لروسيا أن تجاهلها أمر غير مقبول، لكن غطرسة إيران اصطدمت بمفخخات الرمق الأخير التي أشعلها الثوار المحاصرون جحيمًا لكل من حاول الاقتراب، فرضخت إيران للإتفاق بصيغته دون أي مطالب إضافية.

الأحداث في حلب تأخذ مسارًا دمويًا وتفاعلًا دراماتيكيًا تصعب مجاراته، والحديث عنه باستفاضة،لكن يبقى مؤكدًا أن حلب تعرضت لخذلان من فصائل الداخل، ومؤامرة خارجية لإسقاطها، ولم يتحرك العرب لإنقاذ ما تبقى بينما تحركت تركيا في محاولة أخيرة لإنقاذ ما تبقى، وهي خطوة إيجابية تحسب لها رغم كل ما قيل عن خذلانها لحلب.

صحيح أن ماحدث في حلب مأساة، وجرح غائر لكنه سيكون له الكثير من التداعيات والمراجعات لمسار الثورة السورية وإعادتها إلى مسارها من جديد، والأيام دول، والحرب كر وفر، ما يهم هو إعادة ترتيب الأوراق بعيدًا عن هيمنة الخارج.

عن الكاتب

منذر فؤاد

كاتب ومدون يمني، إنسان ينتمي للإنسان في زمن اللانسانية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس