بكر محمد البدور - خاص ترك برس

منذ  أن لمع نجم حزب العدالة والتنمية التركي مطلع الألفية الثالثة وصعوده إلى سدة الحكم أصبح هذا الحزب وتجربته محط أنظار الأحزاب السياسية في البلاد العربية بشكل عام والحركات الإسلامية بشكلٍ خاص ومع توالي نجاحات الحزب على كافة الصعد السياسية والاقتصادية أصبح الحزب محل اعجاب الشارع العربي على اختلاف المشارب السياسية والايدلوجية إذ إن هذا الحزب الوليد قدم نموذجًا يحتذى في الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات الحرة وحقق نتائج ملموسة أدركها رجل الشارع العادي خلال مدة قصيرة مما عزز حضور الحزب في الساحة السياسية التركية.

لقد نظر بعض المراقبين إلى فوز حزب العدالة والتنمية الأول على أنه تصويت عقابي للأحزاب التركية التقليدية التي أخفقت في انتشال البلاد من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عاشتها منذ رحيل ترغوت أوزال أواسط التسعينيات من القرن الماضي حتى وصفت الدولة التركية قبيل وصول العدالة والتنمية إلى السلطة بأنها دولة على حافة الانهيار.

أما الانتخابات التالية التي جرت عام 2007 فقد عزز الحزب فيها فوزه الأول ورفع نسبته ولكن لم يكن بوسع أحد أن يقول بأنها انتخابات عقابية ولكن هذه المرة انتخابات على قاعدة الإنجازات التي حققها الحزب.

وقد تمكن الحزب من الفوز في جميع الانتخابات التي جرت بعد ذلك إلا أن التحريض على الحزب داخل البلاد أفقده الأغلبية المريحة التي كان يتمتع بها طيلة المدة الماضية السنوات الخمسة عشر الماضية ورفضت كافة الأحزاب الدخول في حكومة ائتلافية مع العدالة والتنمية مما دفع رئيس الجمهورية للدعوة إلى انتخابات مبكرة أعادت الأغلبية المريحة للحزب وتمكن من تشكيل الحكومة بمفرده للمرة الرابعة على التوالي الأمر الذي لم يحظَ به أي حزب تركي منذ خمسينيات القرن الماضي.

لقد أحدثت تجربة العدالة والتنمية في تركيا حالة من التساؤلات داخل الحركات الإسلامية في البلاد العربية وأخذت تنظر إلى تجربة العدالة والتنمية بمناظير مختلفة فالبعض عد هذه التجربة منسلخة عن الحركات الإسلامية وأن ما قام به الحزب هو خلع للرداء الإسلامي وتنكر لفكر الزعيم التقليدي للتيار الإسلامي التركي نجم الدين أربكان فيما عده البعض الآخر تجربة ثرية يجب الوقوف عندها ومحاكاتها والبناء عليها باعتبارها اعادة تموضوع للتيار الاسلامي التركي وقدرة كبيرة من الحزب على التكيف مع الظروف والتأقلم معها وعدم الجمود عندها.

لقد حملت رياح الربيع العربي تحديًا جديدًا للحركات الإسلامية السياسية تمثل بالوصول إلى السلطة إثر الانتخابات التي جرت في عدد من الدول العربية إبان ثورات الربيع العربي فهذه الحركات عانت طوال العقود الماضية من التهميش والإقصاء إلا في حالات نادرة خجولة هنا أو هناك فعانت من قلة الكوادر المؤهلة في إدارة الدول والحكومات وزاد من حجم هذا التحدي الاضطرابات التي سادت خلال المرحلة الانتقالية التي تلت إسقاط العديد من الأنظمة العربية بين العامين 2011 و2013  فأضحت هذه الحركات بين مطرقة الاحتجاجات الشعبية والمطالب المتصاعدة وبين سندان قلة الخبرة في الحكم مما أتاح الفرصة أمام فلول الأنظمة المتساقطة لالتقاط الأنفاس وقيادة الثورات المضادة لمنع التحولات الديمقراطية في بلاد الثورات من جانب ولإفشال حركات الإسلام السياسي التي تصدرت المشهد بعد الثورات وإظهارها بمظهر العاجز عن تقديم بديل عن الأنظمة السابقة التي أتى عليها الربيع العربي وللحيلولة دون تقديم هذه الحركات لأي نموذج للحكم الرشيد يؤدي لاحتفاظها بالسلطة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية وقد نجحت الثورات المضادة في إقصاء بعض الحركات الإسلامية من الحكم كما في الحالة المصرية إثر الانقلاب العسكري وفي تحجيم حركات أخرى وإضعاف زخمها السياسي كما في الحالة التونسية.

لقد أكدت نتاجات الربيع العربي على حاجة الحركات الإسلامية السياسية إلى نموذج حكم يوائم بين القيم الديمقراطية والمرجعيات الدينية والقيمة إلى جانب الرؤية الواضحة للنهوض بالبلاد في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ضمن برامج  زمنية محددة وتطلعت الانظار مجددًا إلى حزب العدالة والتنمية التركي الذي أتم عقده الأول في السلطة وما زال متربع على سدتها رغم الكثير من العقبات والتحديات الداخلية والخارجية وعمدة  كثير من الجماعات إلى تأسيس أحزاب سياسية وسمتها بأسماء مشابهة لاسم العدالة والتنمية وهي تستبطن تلك التجربة الفريدة التي سجلت للحزب طيلة العقد الماضي وفي أحيان أخرى اتخذت نفس الاسم كما حصل في المغرب عندما أسس عبد الإله بن كيران حزب العدالة والتنمية المغربي.

وبتتبع موقف الفريقين من تجربة العدالة والتمية نجد أن هذه التجربة ظلمت كثيرًا من قبل الحركات الإسلامية العربية بين القائلين بخلع الحزب لردائه الإسلامي وبين القائلين بتخلص الحزب من الجمود عند الثوابت القديمة وحتى لا يضيع الأمر بين الفريقين وحتى يتسنى لنا الاستفادة من هذه التجربة الغنية في البلاد العربية في ظل مخرجات الربيع العربي وإفرازاته التي دفعت كثير من الحركات الإسلامية العربية إلى صدارة المشهد فنجحت هنا وأخفقت هناك لا بد لنا من قراءة هذه التجربة بصورة متأنية تمكننا من الاستفادة منها في ظل الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلادنا العربية والتي هي بكل تأكيد تختلف مع الظروف المماثلة في تركيا  فطبيعة النظام السياسي التركي يسمح بالتداول السلمي للسلطة بين الأحزاب عبر صناديق الاقتراع فالحزب صاحب الأغلبية البرلمانية هو الذي يشكل الحكومة ويتولى السلطة التنفيذية وهذا الأمر ليس متاح في معظم الدول العربية خاصةً قبل الربع العربي.

إن غياب النظم السياسية التي تسمح بتداول السلطة في البلاد العربية حجم الأحزاب وحولها على أشبه ما تكون بالمنتديات الثقافية تعقد فيها النقاشات والحوارات والمحاضرات لكن بعيدًا عن الممارسة السياسية الفعلية عبر المشاركة في الحكم بطريقة مؤسسية وترتب على ذلك ضعف عام في الأحزاب السياسية واكتفاءها بالشعارات وغياب البرامج القابلة للتطبيق لأنه لا يوجد بصيص أمل يسمح لهذه البرامج بأن ترى النور فالسلطات الحاكمة هي وحدها من يضع البرامج وفق وجهة نظرها ومصالحها فلا خيارات أمام هذه الاحزاب إلا بالقبول بما تلقيه السلطة من فتات الكعكة أو الانزواء بعيدًا في عالم نظري معزول عن الواقع وهنا لا قيمة للتجربة التركية لأن النظام السياسي لا يسعف بذلك ومن ناحية أخرى فإن البلاد العربية ما تزال حتى اللحظة مرتبطة بنظام القبيلة وهذا النظام يقدم ابن القبيلة إلى المواقع القيادية بغض النظر عن الخبرة أو الكفاءة أو أي معيار آخر وهذا يحرم أصحاب الكفاءة والخبرة الذين لا ينتمون إلى قبائل كبيرة من الوصول إلى مواقع مؤثرة، وهذا بعد آخر مختلف في البيئة السياسة يجعل استنساخ التجربة أمرا متعذرا. وهنالك مسالة أخرى تجدر الإشارة إليها وهي أن الانتخابات التركية منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين تتصف بنزاهة كبيرة فلم يطعن أي حزب تركي عبر هذه المدة بنزاهة الانتخابات فالكل كان يقر بالنتائج ويسلم بها، كما أن نسبة المشاركة في الانتخابات في تركيا كبيرة وهي من أعلى النسب في العالم وذلك يعود لسببين الأول تمت الاشارة له وهو النزاهة العالية وهذا يجعل المواطن على يقين بان صوته مؤثر ومحترم فيشارك بقوة والسبب الثاني مرتبط بالاستقطابات السياسية في البلاد وهذا الأمر ما يزال بعيد المنال في البلاد العربية فالانتخابات يتلاعب بها باستمرار.

 

                                                        المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن ترك برس

عن الكاتب

بكر محمد البدور

باحث متخصص في الشؤون التركية وقضايا الشرق الأوسط يعمل باحثًا في مركز دراسات الشرق الأوسط / عمّان


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس