د. باسل الحاج جاسم - الحياة

أياً كان السيناريو المقبل لحلب، فهو سيخلق توازن قوى جديداً، ويفرض معطيات جديدة على الأرض، ستؤثر حتماً في أوراق التفاوض، وريثما يتم التوافق على العودة إلى طاولة المفاوضات مجدداً، يبقى شبح تقسيم سورية مخيماً على الأجواء، في ظل الوضع العسكري الجديد.

لم يعد خافياً على أحد طموح الأكراد إلى إيجاد تواصل جغرافي بين منطقة عفرين وبقية المناطق السورية التي ينتشرون فيها، ما من شأنه إقامة حزام يفصل تركيا عن كامل أراضي الجمهورية العربية السورية، خصوصاً مدينة حلب، ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى، وهو ما يشكل تهديداً واضحاً لأمن أنقرة القومي، ويهدد وحدة أراضي سورية.

سبق أن نفى تانغو بيلغيتش، الناطق الرسمي باسم الخارجية التركية، وجود اتفاق عسكري سري بين أنقرة وواشنطن بخصوص مدينة منبج التي تمثل بموقعها الجغرافي أكبر كتلة ديمغرافية تقف عقبة أمام المشروع الكردي، وهذه النقطة قد تكون وراء تحوّل وجهتهم والابتعاد من الرقة، مرحلياً، فمعركة منبج بعد حسمها، نتيجتها أهم من معركة الرقّة، نظراً إلى أبعادها الاستراتيجية ربحاً أو خسارة لجميع المشاركين فيها، فمنبج يمكنها أن تكون جسراً يربط بين القطاعات الثلاثة للمشروع الكردي الحلم، الجزيرة وعين العرب وعفرين، حيث يتصل قطاعا الجزيرة وعين العرب، بعد سيطرة الأكراد على الشريط الحدودي مع تركيا كاملاً، ويبقى الجيب ما بين ضفة الفرات الغربية وعفرين، والذي يبدأ بمنبج وجرابلس شمالها، مروراً بالباب ودابق.

بعد حسم معركة منبج، تكون الميليشيات الكردية قد تجاوزت نهر الفرات، في مناطق عربية تاريخياً، لا يملك فيها الأكراد أي امتداد تاريخي أو اجتماعي، أو ديمغرافي.

تُعَد تركيا الطرف الأكثر تضرراً نتيجة الاجتياح الكردي لما تبقى من مدن وبلدات الشريط الحدودي مع سورية، والواقعة غرب نهر الفرات، خصوصاً أن منبج تقع في قلب المنطقة التي يريد أكراد سورية إقامة حكم ذاتي فيها «مبدئياً».

تدرك واشنطن جيداً مخاوف أنقرة، لذلك قدمت تطمينات بأن نسبة القوات الكردية المشاركة في «قوات سورية الديموقراطية» لا تزيد عن الخُمْس، لكن الأتراك ومعظم السوريين يعلمون جيداً أن التركيبة الفعلية لهذه المجموعة المسلّحة مغايرة لما يقدّمه الأميركيون من معلومات، خصوصاً أنه لا يخفى على أحد أن ميليشيات صالح مسلم الكردية تشكل غالبية هذه القوات، لا بل إنها هي الآمر الناهي فيها.

واعتبر مراقبون أن كثافة المجازر التي ارتكبتها قوات التحالف في قرى ريف منبج العربية، تأتي في محاولة منها للإسراع بفتح الطريق أمام الميليشيات الكردية لاستكمال مشروعها، الذي يمثل لتركيا خطراً قومياً، في ظل معركتها الطاحنة مع حزب العمال الكردستاني، الذي يمثل «حزب الاتحاد الديموقراطي»، ووحداته الشعبية، امتداده السوري، ما يعني تأمين عمق استراتيجي للأكراد وخطوط إمداد من داخل تركيا وسورية وإليهما، مستغلين انشغال أنقرة بترتيب وضعها الداخلي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة.

واللافت بعد مواجهات مدينة الحسكة قبل أسابيع، بيان القيادة العامة للجيش والقوات المسلّحة السورية أن «الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني «الأسايش» صعد في الآونة الأخيرة من أعماله الاستفزازية في مدينة الحسكة، كالاعتداء على مؤسسات الدولة وسرقة النفط والأقطان وتعطيل الامتحانات وارتكاب أعمال الخطف بحق المواطنين الآمنين وإشاعة حالة من الفوضى وعدم الاستقرار».

وذكر «العمال الكردستاني» الحزب التركي بالاسم في هذا البيان، لم يكن من قبيل المصادفة، فهذا البيان يحمل رسالتين: داخلية، للفصيل الكردي الانفصالي، بأنه ذهب بعيداً، في التعاون مع واشنطن، وتوقيت هذه الرسالة مرتبط بالتعاون التركي - الروسي بعد المصالحة، والرسالة الثانية خارجية، لأنقرة، مفادها أن تركيا كانت محقة في كل اتهاماتها للميليشيات الكردية السورية، بأنها الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة بالإرهابي.

يسيطر الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي ( PYD) أبرز القوى الكردية السورية وميليشياته (YPG) القوتان اللتان تصفهما أنقرة بالإرهابيتين، على ثلاثة أرباع الحدود السورية مع تركيا، ويتابع استفزازه تركيا والعرب، بالتقدم إلى مناطق كان النظام السوري سابقاً تعهد بمنع أي تحرك مسلح كردي فيها، أو السماح للجيش التركي بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة المسلحين الأكراد فيها، كما حدث في أوقات سابقة.

عن الكاتب

د. باسل الحاج جاسم

كاتب وباحث في الشؤون التركية الروسية، ومستشار سياسي، ومؤلف كتاب: كازاخستان والآستانة السورية "طموحات نمر آسيوي جديد وامتحان موسكو"


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس