د. مصطفى حامد أوغلو - خاص ترك برس

لم يكن سقوط مدينة حلب مفاجئًا لكل متتبع بعين فاحصة لمجريات الأحداث وتطوراتها وانعطافاتها بسوريا منذ انطلاق ثورة الشعب السوري الذي لم ينشد سوى الخلاص من عهد الظلم والاسترقاق والعيش بحرية وسلام وأمان، مثله كبقية الشعوب التي بجواره أو التي تعيش ببلاد بعيدة لا يرى بأنها تملك حضارة أعرق من حضارته ولا تملك شعوبها الموروث التاريخي والحضاري والذكاء الوجداني الذي يملكه الشعب السوري.

من المؤلم للمرء أن يكتب كلاما وهو يرى نتائج قد حذر منها البعض ونبه لهذه العواقب لكن الغلبة كانت لأصحاب الأصوات الأقوى، الذين لم ينتبهوا لهذه العواقب وساد التخبط واستعجال قطف الثمار التي لم تنضج بل ولم تنبت أشجارها بعد، مع الأنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا المرضية المتضخمة لدى الغالبية مما ساهم وسهل لهذه الانكسارات والتراجعات وسقوط المدن والمناطق...

عندما أردت الخوض في الأسباب التي أوصلت حلب لهذه المحنة والنهاية المؤلمة، تذكرت أنني كتبت في السنة الأولى من عمر الثورة السورية مقالًا بعنوان ليس من يقتل الشعب السوري هو النظام وحده، قلت يومها أن من يقتل الشعب السوري أولا هيئة الأمم المتحدة بتخاذلها وتواطؤها، والجامعة العربية ثانيا بعجزها، وثالثًا الدول العربية بخنوعها وسكوتها، والدول الإسلامية رابعًا بعدم اكتراثها وصمتها، وإيران بحقدها وغدرها خامسًا، وسادسًا روسيا والصين بعداوتهما، وسابعًا أمريكا بخداعها وغدرها...

وثامنًا وهو الأهم هو الشعب السوري الذي يقتل نفسه بنفسه...

يومها تكلمت عن الخائفوي والصامتين والمترددين من الشعب السوري، وعن المعارضة والشخصيات التي تٌسيء للثورة بما تحمله من الأمراض الذي ذكرناها في بداية المقال...

يومها لم تكن الكتائب المسلحة قد ظهرت، أو كانت في بدايتها، فلم تكن داعش ولا غيرها ولم تكن هذه الرايات والأسماء قد تقاسمت سوريا وخطفت الثورة السورية وحرفتها عن مسارها وبوصلتها...

اليوم إذا أردنا الحديث عن سقوط حلب فهذه هي الأسباب نفسها لم يتغير شيئا منها في تسميته ولكن التغير الحاصل في ماهيته وحدته وشدة تأثره... فمثلا روسيا التي كانت تكتفي بدعم النظام سياسيًا وتزويده بالسلاح، لكنها عندما رأت النظام يتهاوى، سارعت بالتدخل الفعلي، واحتلال البلاد وتدميرها بكل ما تملك من قوة وأسلحة محرمة. وكذلك الدور الإيراني الذي كان مقتصرا على الدعم بالشبيحة، ألقت اليوم بكل ثقلها وبكل ما تملك من ميليشيات جمعتها من كل أصقاع الأرض.

وأمريكا تناست كل خطوطها وتبشيراتها بأن أيام النظام أصبحت معدودة فأنقذت النظام من حبل المشنقة بعد استخدامه السلاح الكيماوي وهذه هي المفارقات العجيبة، وسلمت الملف للدب الروسي يفعل ما يشاء...

الدول العربية وجامعتها المعطوبة، وتصريحات وزراء خارجية بعض دولها، ومنظمة التعاون الإسلامي ودولها التي لا تزال في سباتها العميق، لم تستطع أن تحرك ساكنًا، فلا هي سارعت في إسقاط النظام، ولا حمت الشعب من بطش أعوانه، ولا منعت سقوط حلب، ولم تُبدِ أي اعتراض على الاحتلال الروسي ولو من باب حفظ ماء الوجه...

تركيا ربما الوحيدة التي تحملت العبء الأكبر في محنة السوريين، ورغم رغبتها في أن ينتصر الشعب السوري، لكنها لم تكن تملك الرؤية الجريئة للتدخل بشكل أقوى في الوقت المناسب بالشكل المناسب...

هذه هي الأسباب الخارجية السلبية هي نفسها التي حالت دون انتصار الشعب السوري بثورته.

وهي نفسها التي ساعدت على انكسار حلب وتدميرها من قبل روسيا والنظام والميليشيات الإيرانية.

هذه العوامل الخارجية التي هي خارج سيطرت الإرادة السورية والتأثير عليها بشكل مباشر، وإن كان التأثير ليس مستحيلًا، لكنه يحتاج لجهود جبارة ومكثفة وهذا ما يقودنا للعوامل الداخلية والذاتية التي تتعلق بالسوريين أنفسهم...

كثيرة هي العوامل الداخلية التي يمكن الحديث عنها، وكثيرة هي الأخطاء التي وقع السوريون بها، وكثيرة هي السلبيات التي سهلت وقوع هذه الاختراقات والتجاوزات والخسائر... لكن برأيي أهم تلك النقاط هي:

1- عدم امتلاك المعارضة السورية بسياسيها وعسكرييها للرؤية الواضحة، والخطة المعلومة للجميع، للوصول للهدف، هذا إن كان الهدف نفسه واضحا ومحددا للجميع. ولدي شك بامتلاك هذه الرؤية حتى بعد هذه السنيين القاسية. بل على العكس من ذلك فكثير من المعارضة والكتائب ربما اليوم أيضًا في حيرة وتشتت أكثر من أي يوم مضى.

النظام ومنذ اليوم الأول فتح كل أوراقه وتعامل بكل ما يملك من أقصى الترغيب إلى أقصى الترهيب بنفس الوقت... فأعلن أنها حرب مع الإرهاب وعمل بكل ما يلزم لجعل هذه الأكذوبة حقيقة...

لكن المعارضة السياسية والعسكرية كانتا تتصرفان بردود أفعال بشكل عام، وأوضح مثال على ذلك انسحاب 44 عضوا من الائتلاف احتجاجا على نية الائتلاف المشاركة في مباحثات جنيف، ثم يعود هؤلاء المحتجون ليقودوا المباحثات عندما أصبحوا بالقيادة ومن الهيئة السياسية، وبسقف من المطالب لا يعلو أبدا سقف المطالب الأولى، إن منحناهم الإنصاف.

والمثال الآخر هو الكتائب العسكرية وخاصة الإسلامية التي كانت تعتبر النظام والائتلاف وجهتين لعملة واحدة وها هي تشارك في الهيئة العليا للتفاوض بعد فوات كثير من الفرص والوقت وتغير موازين القوى... والأمثلة كثيرة ولا يسع المجال لذكرها...

2- الأمر الثاني هو أسلمة الثورة وأدلجتها وتحويل مسارها، وتسليمها لعناصر من غير أبناء الشعب السوري وهو مطب وقع به السوريون بمساعدة من كل الأطراف المعادية للثورة وخاصة النظام نفسه والدول الغربية والشرقية على السواء... هنا يتحمل السوريون أيضا من سياسيين وعلماء دين وشيوخ وحركات إسلامية مسؤولية ووزر وإثم هذا الاختطاف... لأن السياسيين سقطوا في تمثيل الثورة عندما ابتعدوا عن الميدان وعاشوا في فنادقهم وعاجيتهم بعيدا عن الآلام والواقع وإعطاء من حمل السلاح موقعا أكثر مما يستحقه الثاني، وتفويضا بالتصرف بالميدان. العلماء والشيوخ الذين كان يجب أن يكون مكانهم بالصف الخلفي بالجبهات ومعسكرات التدريب ومخيمات اللاجئين والمدن الحدودية للتوعية والإرشاد وإصلاح العقيدة وتعليم قيم وأخلاقيات الجهاد والتضحية والإيثار بدل الانشغال بالأمور السياسية والإغاثية والتعليمية والطبية التي لها أصحاب الاختصاصات من أبناء الشعب السوري.

3- الفرصة الضائعة في العام 2012 التي أضاعتها تركيا والمعارضة السياسية والحركات الإسلامية المعتدلة...

في ذلك العام بسطت المعارضة السورية من جيش حر وجيش التوحيد وحركة أحرار الشام سلطتها بدون منازع على أراضي شاسعة، وخاصة في محافظة حلب، وكانت تلك الأراضي تحتوي كل مقومات قيام الدولة من مصادر غنية للبترول والقمح، والمعابر الحدوية، والمياه العذبة، والتضاريس المهمة، والقوة البشرية من عرقيات وإثنيات وأديان، وجغرافية واسعة متنوعة تؤهل المعارضة لبناء نواة لدولة، ومثال كبديل يستطيع أن يقنع الصديق قبل العدو أن هذه المعارضة هي قادرة على إدارة سوريا بعد سقوط الأسد.

يومها لم تكن داعش قد ظهرت ولم يكن هناك أي دور للنصرة.

لم تُستغل هذه الفرصة من قبل المعارضة السياسية، ولا الجيش الحر ولا أحرار الشام ولا الإخوان، وظلت تركيا في تلك الفترة كمراقب، ولم تقم هي أيضًا بأخذ زمام المبادرة واتخاذ الإجراءات الاستباقية لمنع ظهور هذا الغول، الذي طعن الثورة ووأد أحلامها، وأساء للشعب السوري والإسلام. عدم اتخاذ القرار وزمام المبادرة والتدخل المباشر في تلك الفترة ربما  هو سبب ما تعانيه تركيا اليوم وما تعانية الثورة السورية من انكسارات وأضرار، نتيجة للتأخر بالقرار وامتلاك زمام المبادرة في الوقت المناسب والمكان المناسب.

الأسباب التي حالت دون إيجاد البديل هي نفسها التي أعاقت النصر والنجاح، من حزبية واستعجال لقطف النتائج والأفق الضيق والأنـــــــــــــــــــــــــــــــا المرضية وحب الذات وتقديم المصلحة الحزبية أو المناطقية والعرقية والفصائلية على مصلحة الوطن والثورة والشعب... والإسلاميون بشكل خاص يتحملون الوزر الأكبر بإضاعة هذه الفرصة الثمينة...

4- المتسلقون والمندسون وغير الآبِهين بما يجري ببلدهم: ابتليت الثورة السورية بشخصيات مريضة تربت على معتقدات حزب البعث وجبلت على أفكاره، استطاعت بسبب انشقاقها الوصول بسهولة لمراكز قيادية بمؤسسات المعارضة السياسية والعسكرية والحكومية، فأفسدتها لأنها لم تستطع تبني فكر الثورة ولم تدخلها بل الثورة هي من دخلتها مرغمة لا رغبة وطواعية. السبب الثاني في وصول هذه الشخصيات لمراكز متقدمة هو تبنيها من قبل جماعات إسلامية بذرائع واهية غير مقبولة في هذه الفترة الحساسة. والسبب الثالث هو فقدان الإسلاميين للكفاءات القيادية المستعدة لسد هذه الثغور وما أكثرها.

إضافة لهؤلاء المتسلقين كانت هناك ولا تزال شريحة ليست بالقليلة اعتبرت نفسها غير معنية بالحدث رغم فظاعته، وظنت أن النأي بالنفس هو الأسلم لها، فتقاعست عن دعم الثورة ومساعدتها بل كان تذمرها ومشاركتها بنشر السلبيات وتضخيم ما حصل بالبلاد من تدمير هو نوع من التعبير عن رفض الثورة، وتحميل ما حدث لمن بدأ بالثورة وهو الذي يجب أن يضحي ويدفع الضريبة وحده، وهم لا يزالون غير مدركين لما حصل ببلادهم ولديهم الاستعداد للعودة لحضن الوطن وينتظرون من غيرهم تخليص بلادهم من الظلم ومنحهم الحرية بلا ثمن. فكانوا حملا ثقيلا على الثورة وعصي في دواليبها.

مما لا شك فيه أن هناك أسبابا كثيرة يطول الحديث عنها والثورة اليوم تحتاج لمراجعات صادقة لكل مراحلها.

وهذا النقد الذاتي ليس من باب جلد الذات ولا يمكن أن نقول إن الوقت ليس وقته بحجة إضعاف المعنويات والنيل من الثورة وهيبة المقاتلين، أو أن هذه الأسباب لا قيمة لها أمام التحديات الكبيرة والعوامل الخارجية وغيرها من الحجج التي طالما ساهمت في استمرار الخطأ وعدم محاسبة المخطئ والمقصر والمهمل والمسيء بقصد أو بجهل أو بقلة خبرة وكفاءة.

العلاج الصحيح يبدأ بالنقد الصحيح ويقوم على التشخيص الصحيح أيضًا.

ويظل السؤال الأهم هنا كيف تستعاد حلب...؟؟

وهذا ما يجب أن يسأله كل سوري وكل محب وكل مدعي نصرة الثورة السورية والشعب السوري ويجيب عليه  قبل إجابتنا بكل صدق وتجرد وإخلاص...

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس