د. باسل الحاج جاسم - الحياة

كانت كازاخستان أول دولة غالبية سكانها من المسلمين، ودولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي، تتولى رئاسة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عام 2010، وأول دولة من جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة تترأس منظمة التعاون الإسلامي عام 2011.

وربط المراقبون بين هاتين الرئاستين للمنظمتين، باعتبار الأولى تمثل الغرب المسيحي، والثانية الشرق الإسلامي، مع ما يعنيه ذلك لجهة الدور الذي يمكن أن تلعبه كازاخستان مستقبلًا في توسيع الحوار بين الثقافات والحضارات والسلم العالمي.

وباتت أستانة عاصمة كازاخستان المكان الذي اكتسبت فيه منظمة التعاون الإسلامي اسمها الجديد الذي حل محل "منظمة المؤتمر الإسلامي" لاذي لازمها لأكثر من أربعين عامًا.

كما أن قمة رؤساء الدول الأعضاء في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا والتي استضافتها أستانة عام 2010، وضعت كازاخستان على خريطة العلاقات الدولية كلاعب أساسي في منطقة آسيا الوسطى، وبالنسبة إلى الدول الأوروبية كانت خطوة سياسية واقتصادية جديدة نحو الشرق.

يدرك المجتمع الدولي حرص أستانة على تأمين الأمن للمنطقة، وتاييدها الدائم للمبادرات الدولية لتهدئة الأوضاع في أفغانستان وفي العراق وليبيا وسورية، وكذلك يقدر قرارها التخلي عن الأسلحة النووية السوفياتية طوعًا (وهي الرابعة في العالم)، وانضمامها إلى اتفاقية عدم الانتشار النووي، وباتت اليوم تملك رصيدًا ضخمًا من الثقة في موضوع التكنولوجيا النووية.

ويشهد التاريخ على الروابط التي تجمع بين كازاخستان وروسيا، إضافة إلى قربها الجغرافي من الصين، ما أدى إلى نشوء تنافس شديد بين هاتين الدولتين لفرض نفوذهما على كازاخستان، ومن البديهي أن تنضم أوروبا إلى هذا التنافس لجذب التوجهات السياسية الكازاخية نحو الغرب.

وعلى رغم أن سيناريو الثورات السلمية الملونة لم يطرق أبواب كازاخستان، على غرار جورجيا، وأوكرانيا، والجارة قيرغيزستان، إلا أن ذلك لم يقف عقبة في وجه تقاربها مع الغرب، فكازاخستان على رغم أنها دولة ذات غالبية مسلمة، إلا أنها نجحت في ترسيخ نظام حكم علماني يسعى الغرب إلى تشجيعه في العالم الإسلامي.

والجمهورية الفتية تبحث دومًا عن الأشكال الجديدة للحوار الدولي، انطلاقًا من مؤتمر التعاون والثقة في آسيا، وصولًا إلى المؤتمر الدولي لزعماء الأديان، كما أنها تلعب دورًا رئيسًا في منظمة شنغهاي للتعاون، وكذلك وساطتها في إنهاء القطيعة الروسية - التركية، بعد حادث إسقاط تركيا الطائرة الروسية.

فتحت المصالحة الروسية - التركية الباب على إمكان الذهاب إلى تفاهم روسي - تركي في سورية، بدأ باتفاق وقف إطلاق النار، ودعوة الأطراف السورية الفاعلة إلى أستانة عاصمة كازاخستان لبحث تسوية ما. واحتمالات نجاح هذا الاتفاق تبدو أكبر مقارنة بما سبق، لما يملكه الروس والأتراك من نفوذ كبير لدى أطراف الصراع السوريين والإقليميين، ولكن هذا يتوقف على مدى قدرة روسيا على تحقيق وقف إطلاق النار من خلال لجم الميليشيات الإيرانية والميليشيات الطائفية الأخرى من العراق و"حزب الله" اللبناني.

غابت إيران عن اتفاق حلب الذي أخرج المعارضة من المدينة، وحاول الحرس الثوري الإيراني نسف اتفاق حلب الذي تم بين الأتراك والروس، كما غابت طهران عن اتفاق أنقرة الذي أسفر عن وقف إطلاق النار، فالاتفاقان نتيجة جهد ثنائي روسي - تركي، ولكن حرصت روسيا وتركيا على دعوة طهران إلى اجتماع موسكو الثلاثي الذي صدر عنه "إعلان موسكو"، حيث تبدي أوساط إيرانية قلقها من وجود تفاهمات روسية - تركية غير معلنة تجاه سورية.

قلق طهران لم يعد يخفى على أحد، وهذا ليس فقط بسبب خروجها من صفة ضامن لمحادثات أستانة، ولكن أيضًا لرؤيتها الجيش التركي يتقدم في الشمال السوري، حيث بات قاب قوسين من إحكام السيطرة على مدينة الباب ويتجه رويدًا رويدًا نحو منبج بمباركة روسية غير معلنة، وربما بضوء أخضر من بوتين نفسه، وهذا ما سيضمن لتركيا مكانًا على الأرض السورية في حال استمرار فشل المحادثات، بعد أن أوقف بوتين عملية الحسم العسكري في كامل سورية، على غرار ما حدث في حلب.

وفي السياق نفسه ذكر موقع الدبلوماسية الإيرانية المقرب من وزارة الخارجية الإيرانية، أن استعادة حلب كانت خطوة إيجابية بين روسيا وإيران، لكن هناك طريقًا طويلًا لإنهاء الأزمة السورية، وأن موسكو نسقت وتنسق مع أنقرة أكثر بكثير من تنسيقها مع طهران، وأن روسيا غداة تحرير حلب دعت السعودية إلى طاولة المفاوضات السياسية في شأن سورية، مشددًا على أن ذلك يثقل بظله على علاقات البلدين.

وأضاف: "ليس من الواضح أن الروس معنا في سورية، أم نحن مع الروس هناك؟ وينظر الروس لسورية بنظرة تكتيكية، وليست استراتيجية"، مؤكدًا أن مشاركة الرياض على طاولة المفاوضات السورية سيقلب النتائج لغير مصلحة إيران، فضلًا عن أن 90 في المئة من مسلمي روسيا لديهم علاقات جيدة للغاية مع تركيا والسعودية، موضحًا أن موسكو تعير أهمية كبيرة لمطالب أهل المسلمين في روسيا.

من الطبيعي أن تكتنف صعوبات كبيرة إمكان التوصل إلى حل للوضع في سورية، بسبب تباين مواقف مختلف الأطراف حول طبيعة هذا الحل ومخرجاته، خصوصًا في ظل تمسك النظام السوري بمواقفه، واستمرار تحركاته لتحقيق أكبر قدر من المكاسب على الأرض، وموقف إيران المتشدد معه في هذا الاتجاه.

في الوقت نفسه، لا تزال العقبات ماثلةً أمام المعارضة باتجاه تقديم البديل المقنع للمجتمع الدولي، ويرتقي إلى مستوى التضحيات التي قدّمها السوريون حين طالبوا بأبسط الحقوق، بينما تم حرف الأمور من خلال ظهور منظمات إرهابية متطرفة، وأخرى انفصالية.

وتبقى هناك الكثير من التحديات إلى حين وصول الأطراف السورية إلى أستانة، وما بعد أستانة، وهل ستكون اجتماعات أستانة خارج السياق الدولي، أم ستحظى بمظلة الأمم المتحدة وتلغي جنيف ومقرراتها، أم تكون مكملة لها، وهذا يتوقف في شكل كبير على اللاعبين الإقليميين، والذين لم يستخدموا بعد كل أوراقهم، بانتظار ما ستتوصل إليه أنقرة مع موسكو، وكذلك انتظار ممارسة الإدارة الأمريكية الجديدة مهماتها.

يبقى القول، أستانة ستكون محطة أولى، تليها محطات لحل التباينات الكبرى، وفي حال تكللت بالنجاح، تكون روسيا بذلك صححت أخطاءها القديمة حين تم تقسيم المنطقة، واستبعد أي دور لها، لتعود إلى الشرق الأوسط لاعبًا أساسيًا بشراكة تركية.

عن الكاتب

د. باسل الحاج جاسم

كاتب وباحث في الشؤون التركية الروسية، ومستشار سياسي، ومؤلف كتاب: كازاخستان والآستانة السورية "طموحات نمر آسيوي جديد وامتحان موسكو"


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس