فرج كُندي - خاص ترك برس

جرت عادة العلماء الربانيين أن يجعلوا من النصيحة دين كما جاء في الحديث الشريف حين قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الدين النصيحة، قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).

ومن هؤلاء العلماء الربانيين الناصحين ورائد من رواد التجديد الذين ظهروا في نهاية القرن التاسع عشر وعاش إلى الثلث الاول من القرن العشرين.

إنه المجدد الشيخ العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله الذي اشتُهر بصاحب المنار (المجلة والتفسير)، ووارث راية التجديد عن شيخه ومعلمه الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله الذي سبقه في حمل راية الدعوة إلي تبني مشروع حركة التجديد ومواكبة العصر مع المحافظة على ثوابت الأمة، وانطلاق التجديد من أصول الشريعة من خلال التمسك بمصادرها الأساسية المتمثلة في كتاب الله وصحيح سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

توجه الشيخ إلى الشعب التركي بخطاب في كتابه (الخلافة) الذي نشرته دار الزهراء للإعلام العربي بدون تاريخ يحدد شروع الشيخ في تأليف الكتاب ولا سنة نشر الكتاب، إلا أن سياق الرسالة يدل على أن الشيخ قد شرع في تأليف الكتاب في الفترة التي تلت نجاح جمعية الاتحاد والترقي في الوصول إلى السلطة في تركيا عام 1908م، وقبل فترة الإعلان عن سقوط الخلافة وقيام النظام العلماني في عام 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك.

توجه الشيخ بخطابه إلى الشعب التركي مباشرة بكافة شرائحه وتوجهاته السياسية، ولم يكن موجهًا إلى فئة محددة أو توجه معين، ولم يكن موجهًا إلى حاكم أو حكومة بل إلى الشعب التركي.

يذكره بعظمة دين الإسلام الذي بطبيعة الحال يدين به معظم الشعب، ويحذر من الانبهار بالمدنية الغربية التي بدأت تغزو ديار الإسلام، ويشيد بدين الإسلام الذي هو الدين الوحيد الذي يتوافق مع المدنية ولا يتعارض معها، بل هو الدين الذي يقيم صروح المدنية وتقام على قواعده الحضارة الإنسانية فيقول: "أيها الشعب التركي الحي: إن الإسلام أعظم قوة معنوية في الأرض، وإنه هو الذي يمكن أن يحمي مدنية الشرق وينقذ مدنية الغرب، فإن المدنية لا تبقى إلا بالفضيلة، والفضيلة لا تتحقق إلا بالدين؛ ولا يوجد دين يتفق مع العلم والمدنية إلا الإسلام، وإنما عاشت المدنية الغربية هذه القرون بما كان فيها من توازن بين بقايا المسيحية مع التنازع بين العلم الاستقلالي، والتعاليم الكنيسية، فإن الأمم لا تتنصل من فضائل دينها".

ويحذر الشعب التركي من خطر زوال الحضارة والمدنية بسب غياب الوازع الديني واستبداد الأقوياء وتوسع الخطر الشيوعي الماركسي وأن تحقيق الأخوة الإسلامية لا يكون إلا بحكومة إسلامية تقوم على ترسيخ المبادئ العامة الإسلامية النبيلة فيقول: "أصبح الدين والحضارة على خطر الزوال، واشتدت حاجة البشر إلى إصلاح روحي مدني ثابت الأركان يزول به استعباد الأقوياء للضعفاء واستذلال الأغنياء للفقراء، وخطر البلشفية على الأغنياء على الأغنياء، ويبطل به امتياز الأجناس، لتتحقق الأخوة العامة بين الناس ولن يكون ذلك إلا بحكومة الإسلام".

ويؤكد الشيخ رضا على قدرة الشعب التركي بين الشعوب الإسلامية على تحقيق سعادة البشرية بما لديه من رصيد حضاري إسلامي ومجد عسكري لا ينكره أحد؛ محذرا من ظاهرة انبهار بعض الأتراك بحياة الإفرنج متنصلين من حضارتهم، ويؤكد على مدنية الإسلام وخصوصيته العقدية والفكرية التي تختلف عن النظريات الغربية المفسدة للحياة الاجتماعية: "أيها الشعب التركي الباسل: إنك اليوم أقدر الشعوب الإسلامية على أن تحقق للبشرية هذه الأمنية فاغتنم هذه الفرصة لتأسيس مجد إنساني خالد. لا يذكر معه مجدك الحربي التالد، ولا يجرمنك المتفرنجون على تقليد الإفرنج في سيرتهم، وأنت أهل لأن تكون إمامًا لهم بمدنية خير من مدنيتهم، وما ثم إلا المدنية الإسلامية النابتة قواعدها المعقولة على أساس العقيدة الدينية؛ فلا تزلزلها النظريات التي تعبث بالعمران وتٌفسد نظم الحياة الاجتماعية على الناس".

ويستمر الشيخ رضا في خطابه للشعب التركي يدعوه إلي بث روح القوة وتجديد حكومة ونظام الحكم للنهوض بالأمة ليس لخدمتها فقط بل لخدمة البشرية جميعا دون النظر لعصبية الدين أو العرق أو اللون؛ وهذه مبادئ الدين الإسلامي الحنيف الذي يدين به الشعب التركي:

"أيها الشعب التركي انهض بتجديد حكومة الخلافة الإسلامية بقصد الجمع بين هداية الدين والحضارة لخدمة الإنسانية لا لتأسيس عصبية إسلامية تهدد الدول الغربية. فستجد من يشد أزرك ويرفع ذكرك ويدفع عنك تهم الساسة المفترين وإغراء الطامعين المغرورين.

وفي ظل هذه الظروف التي تمر بها الدولة التركية أتوجه إلى الشعب التركي العظيم الذى قاد الأمة الاسلامية فترة طويلة ناهزت الستة قرون من الزمن كان لها من الإيجابيات، وعليها من السلبيات ما دونته كتب التاريخ المنصف إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر دفاع الدولة العثمانية عن الإسلام  ضد الصليبيين، وصد هجماتهم على شمال أفريقيا وشرق المتوسط  ووقوفهم ضد توسع الصفويين؛ ونشر الدين الحنيف في أوروبا وتحويل القسطنطينية إلى عاصمة الخلافة الإسلامية.

أيها الشعب التركي الواعد الذي يبشر بإضافة رافد ثاني للمشروع النهضوي في دولة ماليزيا ليفتح المجال لتشجيع  قيام مشاريع نهضوية في أقطار إسلامية أخرى تحتذي بتجاربكم الناجحة وتجعل منها نموذجًا قابلًا للتحقيق وليس بعزيز.

أيها الشعب التركي عليكم بنبذ الخلافات السياسية والفرقة، والتمسك بمشروعكم والتأكيد على الوقوف صفًا واحدًا ضد محاولات خصومكم لشق صفكم وتفريق وحدتكم وإشغالكم بإشعال حروب داخلية أو خلافات فرعية تُحّول وجهتكم من التطور إلى الصراع والنزاع كما نجحوا مع غيركم من أشقائكم من الذين انطلت عليهم الخدعة ودخلوا في أتون الحروب الأهلية. لا أقول أخرتهم بل أتت على الأخضر واليابس وجعلت أعزتهم أذلة وعالة يتكففون الناس أو مهجرين من بلدانهم، وغرقى طعاما للأسماك أو حبيسي معسكرات المهاجرين غير القانونيين.

أيها الشعب التركي إنك محل نظر للعديد من الشعوب الاسلامية التي تتمنى نجاحكم كما تتمنى أن تسير على خطاكم للوصول إلى النهضة المنشودة التي ندعو الله أن يحققها ليعم خيرها كل الإنسانية دون استثناء أو انحياز.

أيها الشعب التركي إن كل الشعوب الإسلامية تنظر إليك بعين الأمل وعين الخوف والوجل؛ الأمل في النهوض وحمل راية الحرية بيد وباليد الأخرى راية المجد والعمل، والخوف والوجل من سقوطك لأنه يسقطها كما أسقطها حين تلاشت دولتك عقب الحرب العالمية الأولى.

أيها الشعب التركي قم وانهض فالأمل معقود على نهضتك، فبها سوف تنهض باقي شعوب الأمة وتسير معًا جنبًا إلى جنب في ركاب التقدم والنمو والازدهار، وتعود مكانتها إلى سابق عهدها لتحمل مشعل الحضارة فنحن أهلها وأولى الناس بها."

رحم الله رائد التجديد الشيخ رشيد رضا. داعية الأمة للنهوض من كبوتها واستعادة مكانتها الريادية بين الأمم، ورحم الله كل من دعا لذلك وعمل من أجله.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس