نور الدين عبد الكريم - خاص ترك برس

يذكر الموقع الرسمي لمسلسل "قيامة أرطغرل" تعريفًا به على أنه توعوي تثقيفي. وهو كذلك بالفعل، بل إن هناك من يدّعي أنه ظهر ردًا على مسلسل حريم السلطان الذي تم فيه التعرض لسيرة الخليفة العثماني سليمان القانوني بالتشويه والتحريف؛ السبب الذي دفع الرئيس أردوغان للتعبير عن امتعاضه واستنكاره لتزييف الحقائق بحق أحد أبرز الخلفاء المسلمين من السلالة العثمانية.

مسلسل سياسي

مما يؤكد هذا الاعتقاد انتشار صور ومقاطع للرئيس أردوغان وبصحبته قادة بارزين من حزب العدالة والتنمية، وهو يزور الكادر الفني للمسلسل، أثناء تصويرهم الجزء الأول منه. ومن ثم مدحه لهذا العمل وثناؤه عليه في احتفال رسمي بعد أن تعرض طاقمه الفني لإهانة من قبل منظمي مهرجان جائزة "الفراشة الذهبية"، الخاص بالأعمال الفنية التركية.

حين حصل على جائزة الأفضل على مستوى الجمهورية، واستحق بذلك لقب الموسم، ولكن تسليم الجائزة لفريق العمل من قبل المنظمين تخلله خروج عن البروتوكول الفني المتعارف عليه، وهو ما اعتبر إهانة لهم.

فجاء خطاب الرئيس في مناسبة رسمية ليرد لهم اعتبارهم، ويذكّرهم بأن تكريمهم الفعلي ليس من خلال هذه الجائزة فقط، بل إن التكريم الحقيقي هو تعلق ملايين المشاهدين الأتراك بهذا العمل، ودخوله كل بيت، وتحوله إلى موضوع نقاش بين أفراد الأسرة التركية، بما فيهم أسرة الرئيس نفسه حسب تعبيره، فقال في كلمته أنه من النادر ما يتحدث مع أحفاده وأبنائه عن عمل فني، ولكن هذا حصل فعلًا بفضل مسلسل قيامة أرطغرل.

وقد فات أردوغان أن يذكر أن هذا المسلسل قد تجاوز فضاءات تركيا وأصبح حديث الشارع العربي والإسلامي، واقعيًا وتكنولوجيًا، وهذا تكريم فوق تكريم.

فالمسلسل إذًا سياسي توعوي موجه بامتياز، يحمل في حلقاته الكثير من الرسائل السياسية، والقيم الأخلاقية والدينية التي من النادر أن تشاهَد في الأعمال الفنية الأخرى، خصوصاً في الأعمال التي تتطرق لتاريخ الأمة الإسلامية وخلفائها وجيوشها، ومراحل تخلفها ونهضتها.

وصلت حلقات هذا المسلسل منذ أول بثه حتى وقت كتابة هذه الأسطر ما يزيد عن ثمانين حلقة، وعلى الرغم من تزاحم الأحداث، وتداخل القضايا التي يطرحها صانعوه، واختلاف الرسائل واللفتات التي يقصدون توجيهها للمشاهدين، إلا أن القضية الأبرز والأهم على الإطلاق، هي قضية الخونة والجواسيس، والتي لولا وجودها لفقد المسلسل بريقه، ولربما لم يحظ بهذه الأهمية، وهذه الأرقام العالية من المشاهدات، وهو ما يدل على خطورة هذه المعضلة على أمتنا، وامتعاض وكره الناس لها، وإدراكهم لضررها في أيامنا هذه.

يطرح المسلسل قضية الجواسيس والخونة من عدة زوايا؛ فهو يظهر خطورتهم، ويظهر كذلك أسباب خيانتهم، والدوافع النفسية والشخصية وراء عملهم لصالح أعداء أمتهم، ثم يبين الحيل والألاعيب المختلفة للتعامل معهم ولكشف مكرهم ولمعاقبتهم، وجاء ذلك من خلال بعض الشخصيات التي جسدت أدوار هؤلاء الخونة.

الجاسوس الكاريزما

أول هؤلاء الخونة ظهورًا، والذي أزعم أنه كان الأكثر دهاءً ومكرًا مقارنة ببقية الجواسيس التي ظهرت لاحقًا، "كورد أوغلو"، والذي جسد دوره الفنان المتمكن والمبدع "هاكان فانلي". تكمن خطورة كورد أوغلو في ثقله السياسي في القبيلة، وتأثيره فيها.

فهو بمثابة الأخ لسليمان شاه زعيم قبيلة الكايي، والذي يعتبر جد السلالة العثمانية، ونائبه في السيادة، وشريكه في النضال والتضحية، خاض المعارك بجانبه ضد المغول في سبيل الدفاع عن شرف قبيلته وأبنائها ووحدتهم، وفقد في ذلك زوجته وأولاده. ثم بالإضافة إلى ذلك، يمتلك كاريزما قوية، وثقة عالية بالنفس، عُجن بماء السياسة، فامتلك حنكةً سياسيةً وفطنةً وذكاءً وسرعة بديهة.

فزعيم سياسي بهذه المعطيات يصعب الاقتناع بخيانته، وإن لم تتوفر الأدلة القطعية على ذلك، فإن مجرد محاولة اتهامه أو عزله ستتسبب بأزمة سياسية، وانشقاقات ونزاعات بين سادة القبيلة وأفرادها، لذلك تأخر اقتناع سليمان شاه بخيانة أخيه له وصعُب عليه تصديق ذلك.

إن كانت هذه المعطيات كلها سببًا في رفع مكانة وقدر كورد أوغلو من قبل سليمان شاه، ومن قبل جميع أفراد القبيلة، إلا أنها أضرت بصاحبها ولم تنفعه، فهذه التضحيات أصابته بالغرور الزائد، وأشعرته أنه أحق بالسيادة من أخيه ومن أبناء أخيه، ولم يجد سبيلًا إلى إشباع رغباته وتحقيق حلمه بالسيادة إلا بالكيد والمكر والخيانة، فاستعان بالصليبيين، وتلطخت يداه بدماء أبناء قبيلته.

الفضل في إثارة الشكوك حول كورد أوغلو يعود إلى بطل المسلسل أرطغرل، الابن الثالث لسليمان شاه، ولأنه لم يملك الأدلة القطعية على ذلك؛ اكتفى باقناع والده وأخيه جوندودو، وبقي عليهم انتظار ظهور الحقائق، ولم يبادروا بأي تصرف خشية الفتنة والفرقة بين أفراد القبيلة.

إلا أن ذلك كاد أن يحدث فعلًا؛ فأثناء فترة مرض سليمان شاه، وفقدانه للوعي، وأثناء غياب أرطغرل؛ أوشك جوندودو بتعجله وبسرعة اتهامه لكورد أوغلو؛ أوشك أن يفسد وحدة القبيلة ويتسبب بفرقتها. فدهاء ومكر وحنكة عمه مكنّوه من قلب الطاولة رأساً على عقب، وكاد أن ينتهي الأمر بانتزاع السيادة من عائلة سليمان شاه، لولا أن سليمان شاه استعاد صحته، وتمكن من تدارك الأمر.

لذلك عمد سليمان وولداه إلى لعبة السياسة، ومواجهة المكر بالمكر، والدهاء بالدهاء، ولتحقيق ذلك تمكن أرطغرل من معرفة الأوراق التي يلعب بها كورد أوغلو، فقطعوا عليه الطريق، ثم اتجهوا إلى اعتبار عامل الزمن، وطول الصبر، من أجل التلاعب بأعصاب كورد أوغلو، علّه يفقد اتزانه وهدوءه، ويخطو خطوة غير مدروسة، يقع بسببها في شر وسوء تصرفاته.

وقد نجح الرجل الكهل وولداه بذلك، وفي عدة أحداث وتفاصيل لا يتسع لها هذا المقال؛ انتهت جميعها بأن جعلت كورد أوغلو يفقد اتزانه، ولا يجيد السيطرة على أعصابه، فخطط لانقلاب عسكري على الأسرة الحاكمة، وهذه هي المحاولة الخاطئة التي تسببت بكشف أمره، وافتضاحه أمام أبناء القبيلة.

وبعد أن بدا هذا الإنقلاب ناحجًا في أول أمره، وأوشك كورد أوغلو على تحقيق مبتغاه منه؛ تمكن أرطغرل من استعادة حكم والده، وفُضح الإنقلابيون، وبالتالي لم يجد زعيم الإنقلاب من يدافع عنه حين نُفّذ في حقه حكم الإعدام.

الجاسوس الطرطور

وعلى النقيض من شخصية الخائن كورد أوغلو، تأتي شخصية الخائن كوجباش، التي ظهرت في الجزء الثاني، وهو أحد محاربي توتكين ابن خال أرطغرل، ابن زعيم قبيلة بيقدلي. لم يتعرض المسلسل للأسباب الشخصية وراء اتجاه كوجباش للعمالة، واكتفى ببيان أن غرور توتكين، وسوء إدارته لجنوده وضعف شخصيته هي ما أفرزت هذا الخائن الذي كان يعمل لحساب المغول، لذلك لم يكن من الصعب على أرطغرل ومحاربيه اكتشاف خيانة كوجباش، فسقط في أول فخ نصبوه له.

الطريف في موضوع كوجباش أنه لم يكن ذا كاريزما أو قوة شخصية كسابقه في الجزء الأول، فكورد أوغلو هو من خطط للإنقلاب، وطلب الدعم من الصليبيين دون أن يرتمي في حضنهم، أو يدخل القبيلة على "ظهر خيولهم"، فهم  كانوا بحاجته، وكان هو من يملي عليهم شروطه وطلباته، وأمام قوته ونفوذه في القبيلة لم يكن أمامهم خيار إلا تقديره وتوجيــبه. أما كوجباش فقد كان ألعوبة بيد المغول، فثمة فرق بين عميل "طرطور"، وعميل ذي كاريزما وقوة شخصية.

الجاسوس الدبلوماسي

ومن أهم شخصيات الجواسيس والتي قد تنافس كورد أوغلو بالخطورة، شخصية الأمير سعد الدين كوبيك، وهو عامل السلطان السلجوقي على أرض الأناضول، وصاحب الكلمة العليا بين القبائل التركمانية. تدّعي بعض الروايات التاريخية أن السلطان السلجوقي علاء الدين هو من سينفذ حكم الإعدام بحق سعد الدين كوبيك، بعد أن تتضح له خيانته وعمالته، ولا أدري إن كان المسلسل يعتمد هذه الرواية أم رواية أخرى، فبالتالي هل سيكون موته على يد أرطغرل كما كان مصير بقية الخونة في حلقات أخرى؟ أم سيكون لأرطغرل الفضل في كشف أمره وإظهاره للسلطان؟ هذا ما ستجيب عنه الحلقات القادمة، ولعل اختفاء كوبيك مؤخرًا بعد عودته إلى "قونيا" حيث طلب منه السلطان ذلك، لعل هذا يرجح اعتماد المسلسل الرواية الأولى.   

المهم والمثير في شخصية سعد الدين كوبيك، هو أنه أقل دهاءً وذكاءً من كورد أوغلو، إلا أنه يعتمد على الحصانة الدبلوماسية التي حظي بها بسبب لقب الأمير. فهو لا يُخفي تحركاته ولقاءاته مع قادة المغول وقادة الصليبيين في كثير من الأحيان، بل إنه يستغل منصبه في ادعاء مصلحة الدولة في تحقيق الصلح مع هؤلاء الأعداء، من أجل التخفيف من القتل والتشرد، إلا أنه في حقيقة الأمر يسعى لبسط نفوذه وسيطرته على أرض الأناضول دون علم السلطان علاء الدين، ويكنّ في نفس الوقت لأرطغرل العداء والحقد لأنه هو الوحيد الذي سيحول دون تحقيقه مراده.

المرحلة الحالية من الجزء الثالث، تشهد تغيرًا في سياسة أرطغرل في التعامل مع الخونة، فقد وجد أنه من مصلحته ومصلحة الدولة السلجوقية التخفيف من وهج العداوة مع سعد الدين كوبيك، لذلك بدأ بالتعاون معه حينما اتفقت مصالحهما في تحقيق الإستقرار بين القبائل التركمانية، وإن كان أرطغرل لا يخفي عدم ثقته بسعد الدين، ويظهر تيقنه من أن الأخير لا يزال يتربص به الدوائر. فلعلها إذا سياسة المداراة والمسايرة التي تعلمها من والده في إخراج كورد أوغلو عن طوره، ووقوعه في شر أعماله، والحلقات القادمة ستكون حبلى بالمفاجآت.

هل يتوب الجاسوس؟

بقي أن أذكر أن المسلسل سعى إلى ترسيخ فكرة أن الإعدام هو ما يستحقه الخائن، ومع ذلك فقد سلط الضوء في نفس الوقت على توبة الخائن.

فسالجان مثلًا، وهي زوجة جوندودو، كانت في الجزء الأول من المسلسل تنقل أخبار خيمة الرئيس إلى كورد أوغلو، وكانت تتعاون معه في الكيد لوالد زوحها سليمان شاه. ومع أنه كان بإمكانها التزام الصمت بعد مقتل كورد أوغلو، لعدم اكتشاف أمرها، ولعدم معرفة أحد بحلقات التواصل بينهما، إلا أن تأنيب الضمير أجبرها على المصارحة بما كان منها.

فقُبلت توبتها من قبل زوجها وعمها، ولذلك ظهرت في الجزء الثاني بشخصية مساندة لأرطغرل، تسعى لخير القبيلة على عكس ما كانت عليه في الجزء الأول، وهو دليل التوبة الصادقة.   

أخيرًا، الرسالة التي قد نستشفها من موضوع الخونة في هذا المسلسل هي أن لعبة السياسة تفرض علينا المجابهة بالمثل، فالعدو يسعى إلى ما فيه غلبته وتفوقه، ولن يدّخر أي جهد في سبيل ذلك، واختراق الطرف الآخر أهم طرقه ووسائله، لذلك نجد أرطغرل يرسل مقاتليه، ويغرسهم عيوناً له في أرض العدو، فتارة يأتونه بالأخبار، وتارة ينفذون له أعمالًا قتالية تصب في مصلحته. ولسان حاله يقول: إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب. فهل يتابع أحد من مسؤولينا المسلسل؟!

عن الكاتب

نور الدين عبد الكريم

كاتب وباحث أردني، دكتوراة في تخصص الفقه وأصول الفقه، ويحمل شهادة ماجستير في نفس التخصص، والبكالوريوس كذلك من كلية الشريعة - الجامعة الأردنية.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس