جمال الهواري - خاص ترك برس

تابعت بشغف واهتمام بالغين كغيري من الملايين من غير الأتراك حول العالم الاستفتاء حول التعديلات الدستورية في تركيا، و التي تهدف لتحولها للنظام الرئاسي وصوت الأتراك بالموافقة عليها في رد عملي وواقعي على كل الحملات التي انطلقت في مختلف دول الغرب في محاولة للتأثير على الناخب التركي وحثه على التصويت "بلا" في حادثة فريدة من نوعها، كون معظم تلك الحملات أتت من دول ترسخت فيها الديمقراطية منذ عقود وتنص دساتيرها وقوانينها على حرية الرأي وحق الشعوب في تقرير مصيرها لكن يبدو أن عداءها لتركيا وخشيتها من التنامي المتزايد لقوتها وتأثيرها على الصعيدين الإقليمي والدولي قد دفع بعض حكومات أوروبا لكسر القواعد الدبلوماسية والأخلاقية في التعامل مع ملف التعديلات الدستورية رغم أنه شأن تركي داخلي بحت ولا يحق لأحد فرض وصايته على الشعب التركي في تقرير مصيره واختيار ما يناسبه.

ركز الكثيرون خصوصًا في وسائل الإعلام الغربية على الفارق القليل في نسب التصويت بين نعم ولا حيث أن نسبة تأييد التعديل الدستوري بلغت 51.4% ونسبة الرفض 48.6% بعد فرز كامل صناديق الاقتراع وتناسوا نسبة المشاركة في الاستفتاء والتي بلغت داخل تركيا 85.46% وفي خارجها 46.95% وهي نسبة أقل ما توصف به أنها قياسية وتبرهن على ثقة الشعب التركي في نزاهة الإنتخابات وحيادية القائمين عليها وإدراكه أن نظام الحكم في البلاد يحتاج فعلًا إلى تغيير جذري يغلق به الثغرات التي يمكن من خلالها أن يتدخل خصوم تركيا في شؤونها الداخلية.

التعديلات تمنح الرئيس صلاحيات أوسع و حرية حركة أكبر تمكنه من اتخاذ القرارات الملائمة في الوقت المناسب، وتجعل النظام برأس واحد ويتخلص نهائيًا من النظام الهجين الذي يستند عليه الدستور الحالي والذي تمت كتابته على يد جنرالات العسكر بعد عامين من انقلاب الجنرال كنعان إيفرين عام 1980، ورغم مروره بعدة تعديلات لكنها لم تكن كافية للفصل بين السلطات والقضاء على الضبابية والتداخل بين سلطات الرئيس والبرلمان والحكومة والتي تسببت في العديد من الخلافات والصدامات أحيانًا وكلفت تركيا وقتًا طويلًا وثمينًا للتعافي منها ومن آثارها.

قيام الرئيس "أردوغان" بزيارة أضرحة الصحابي الجليل ابي أيوب الأنصاري والسلطانين العثمانيين محمد الفاتح وسليم الأول والرئيس الراحل تورجوت أوزال ورئيسي الوزراء الراحلين عدنان مندريس ونجم الدين أربكان، في رسالة واضحة للجميع: نعم نحن دولة ديمقراطية وحديثة متقدمة لكننا لن ننسي أبدًا عمقنا الإسلامي وتاريخ أجدادنا وكفاحهم وجهود من سبقونا وغرسوا بذور الكفاح والنضال من أجل أن تتخذ تركيا الحديثة مكانها الذي تستحقه بين دول العالم المتقدم.

يرى البعض أن الفارق الضئيل بين معسكري القبول والرفض ربما يحمل رسالة للرئيس "أردوغان" بأنه يجب عليه القيام بالمزيد من العمل لكسب ثقة المعارضين ويرون أن نظام الحكم الحالي هو الأفضل من وجهة نظرهم خصوصًا أن الطفرة التي حدثت في تركيا على كافة المستويات خلال السنوات الأخيرة قد جاءت في ظل نظام تنقسم فيه السلطة بين البرلمان والحكومة، لهؤلاء ومن يدور في فلكهم منذ متى تنتهي الانتخابات والاستفتاءات في الدول الديمقراطية بنتيجة يكون الفرق فيها شاسع بين المؤيد والمعارض وتناسوا متعمدين أن الشعب التركي بجميع أطيافه و انتماءاته قد خرج منذ شهور قليلة وتصدى لمحاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/ تموز الماضي وكأنه قد كان هناك وقتها رئيسًا لتركيا غير أردوغان.

كان من الملفت للنظر تصويت الأكراد بكثافة لصالح "نعم" للتعديلات الدستورية، مما يعني أن الأصوات الكردية كانت عاملًا هامًا للغاية في حسم نتيجة الاستفتاء، هذا إن دل على شيء فإنما يدل على ثقة الأكراد بقدرة الرئيس "أردوغان" وحكومته في التعاطي مع الملف الكردي وأنه لا فرق في المعاملة بين جميع مكونات الشعب التركي وتساويهم في الحقوق و الواجبات تجاه الوطن.

باختصار لقد أصبحت تركيا نموذجًا للديمقراطية يضاهي الغرب بل ويتفوق عليه في النزاهة والحياد وحفظ الحقوق والحريات، وأثبتت للعالم بأسره شرقًا وغربًا أن الأحزاب والنخب ذات التوجه الإسلامي قادرة على الحكم والنهوض بدولها والتقدم بها في ظل منظومة مؤسسية قل أن يوجد مثيلها في العالم الغربي الذي يدعي التمسك بالديمقراطية والحريات لكنه يهاجمها بشراسة لو أتت على غير هواه ووقفت عثرة في طريق محاولاته الدائمة للهيمنة على مقدرات الشعوب و مصائرها خصوصًا في العالمين العربي والإسلامي.

عن الكاتب

جمال الهواري

صحفي و ناشط سياسي مصري، عضو منظمة العفو الدولية.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس