جلال سلمي - خاص ترك برس

أعلنت وسائل الإعلام التركية، الأحد الماضي 16 نيسان/أبريل، أن نتيجة الاستفتاء غير الرسمية، حتى تاريخ كتابة المقال على الأقل، انتهت ب 51.8% لصالح "نعم"، و48.2% لصالح "لا".

وفي اليوم التالي للاستفتاء زار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبر الصحابي "أبو أيوب الأنصاري"، والسلطان "محمد الفاتح"، ورؤساء الوزراء السابقين "عدنان مندرس"، و"تورجوت أوزال"، و"نجم الدين أربكان". فما هي دلالات تلك الزيارة؟

لقد كرس أردوغان من خلال زيارته لأضرحة الشخصيات المذكورة، بعضًا من ملامح المرحلة الجديدة للجمهورية التركية. ملامح تجلت في الرسائل التي حملها "قائد مسيرة التغيير والبناء"، رجب طيب أردوغان، باختياره الدقيق للشخصيات التي قد تعكس بالضبط ما يرنو لعكسه.

أما زيارته لقبر الصحابي، أبو أيوب الأنصاري، فقد عكست الهوية الدينية الإسلامية، وزيارته لقبر فاتح إسطنبول، السلطان محمد الفاتح، كشفت الهوية التاريخية العثمانية، بينما زيارته لرؤساء الوزراء الذين سعوا للقضاء على سيطرة فئة الأقلية، فقد أظهرت هوية أو ميزة الاستمرارية لمشوار الفئة التي تشكل الأكثرية في تركيا، والتي دائمًا ما تعرضت للاستئصال والنفي من قبل فئة الأقلية. والاستمرارية عادة ما تشير إلى الارتباط بالماضي وإكمال الطريق على ذات المنوال في المستقبل مهما بلغت وتنوعت التحديات.

فئة الأقلية هي فئة سيطرت على مفاصل الدولة الأساسية منذ عام 1923 وحتى عام 2002. تتألف هذه الفئة من الجيش وبعض المفكرين وثلة من رجال الدولة المدنيين رفيعي المستوى. وقد مارست هذه الفئة عدة إجراءات إقصائية واستئصالية بحق الشريحة المحافظة من المواطنين الأتراك بحسب ما تشير إليه الخبير الاجتماعية السياسية التركية "نيلوفار غولا" التي تصف هذه الفئة باسم "الأتراك البيض". 

ترى غولا أن هذه الفئة رأت في نفسها النخبة المتقدمة والمتنورة التي أسست الجمهورية التركية التي يجب الحفاظ عليها وفقاً لمبادئ العلمانية والتقدمية والأفكار الغربية. ووفقًا لغولا، فإن هذه الفئة تتمتع بثراء فادح نتيجة العلاقات الشخصية الموجودة بين منتسبيها العسكريين والمدنيين، وهمهم الأساسي هو إقصاء فئة الأكثرية المحافظة التي تُطلق عليها غولا اسم "الأتراك السود" عن مقامات الدولة الهامة والمناصب السياسية أو الاقتصادية الفاعلة. وإن وصل "الأتراك السود"، وفقًا لغولا، إلى مناصب رفيعة، إلا أنهم يبقون "أتراك رماديون" عاجزين عن الوصول إلى بوتقة "الأتراك البيض"، وغير قادرين على فتك هذه البوتقة، نتيجة محاربتهم بشراسة من قبل وسائل الإعلام والبيروقراطية والجيش التابعة بشكلٍ كبير ومباشر لفئة الأقلية.

ويُرجع "الأتراك البيض" ضرورة إقصاء "الأتراك السود" عن مقاليد الحكم ومناصب الدولة إلى "تخلف" هذه الفئة المتربطة بالفكر المحافظ على القيم المرتبطة بالدولة العثمانية والهوية الإسلامية. لكن بإعلان نتيجة الاستفتاء لصالح "نعم" يمكن القول بأن حزب العدالة والتنمية استطاع تثبيت حكم الأكثرية لوقتٍ طويل.

في الختام، نظم حزب العدالة والتنمية ـ قبل وعشية توليه لمقاليد الحكم ـ برامج التوعية الثقافية التي لعبت دوراً هاماً في تعبئة المواطنين الأتراك بروح الافتخار بالتاريخ والقيم الموروثة والحقوق المكتسبة، وبث روح التضحية فيهم من أجل هذه الحقوق، ووسع برامج التعليم الداخلي والخارجي، لبناء جيل شاب يؤمن بالمعايير الديمقراطية والحقوق المدنية، وأحرز سيطرة مكثفة على وسائل الإعلام، وبنى تنمية اقتصادية منحت المواطنين الكثير من المكتسبات، وحصن مؤسسات الدولة بموظفين من أبناء الأكثرية الحالمة بتثبيت دعائم حكمها لنفسها، ومنح المواطنين حقوقهم الواسعة التي حرموا منها لسنوات، لغرس شعور ضرورة الوقوف ضد من يحاول حرمانهم لها من جديد، وأخيراً أقر دستور وقوانين تكفل له ولفئة الأكثرية حماية المكتسبات، فأصبحت تركيا بذلك تعيش مرحلةً جديدة تحمل هويةً تعتز بإسلاميتها وعثمانيتها من دون التخلي عن مبادئ العلمانية المؤسساتية، أي علمانية مؤسسات الدولة، بحسب ما أكد عليه الرئيس أردوغان في أكثر من لقاء. والمرحلة المقبلة على الأغلب ستشهد المزيد من التغييرات التي تصب في دائرة تعزيز هذه الهوية التي ستشكل بعد حين "الجمهورية التركية الثانية".

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس