د. مصطفى حامد أوغلو - خاص ترك برس

حظي الاستفتاء التركي على تغيير الدستور، باهتمام كبير وعلى كل المستويات الداخلية والخارجية.

بدأ الاهتمام منذ اليوم الأول لطرح فكرة التغيير، واستمر أثناء الحملات الانتخابية، التي خرجت من كونها شأنًا داخليًا لتصبح محل خلافات وتجاذب مع دول أوروبية كثيرة، ولايزال الاهتمام والنقاش يدور حول النتائج ودراستها وتقييمها، ولن ينتهي بالمستقبل القريب كما يبدو.

يأتي هذا الاهتمام لأسباب عديدة، فهو أول استفتاء يمس جوهر شكل نظام الحكم، والانتقال من النظام البرلماني للنظام الرئاسي، ويأتي هذا التغيير ولأول مرة أيضًا من قبل الإرادة المدنية الشعبية وليس بقوة السلاح وأوامر العسكر. كما أن توقيته في هذه المرحلة الزمنية والخلافات مع الغرب، الذي يعيش كثيرًا من المشاكل الداخلية والازدواجية والتنكر للقيم التي طالما كان ينادي بها، جعل هذا الاستفتاء محل تجاذب وصراع بين ثقافات وحضارات وقيم وأديان.

صَوًّت الأتراك على دستورهم الجديد، في ظل انقسام حاد بين قطبي الاستفتاء، بعد أحداث جسام عاشتها تركيا، كان أهمها محاولة الانقلاب العسكري الفاشل، واستمرار حالة الطوارئ، ودخول تركيا بعملية درع الفرات والأحداث الدامية في جنوب شرق تركيا والاعتقالات التي طالت كوادر حزب الشعوب الديمقراطية، وتوتر العلاقات وتدهورها مع أمريكا وكثير من دول الاتحاد الأوروبي.

النتيجة كانت بتصويت 51.4% بـ"نعم" و48.6 بـ"لا"، وهذا ما جعل النقاشات تبدأ ولا تنتهي حول هذه النسب المتقاربة والأرقام المفاجئة من المدن وخاصة الكبرى منها، والانتماءات الفكرية والاجتماعية والعرقية التي اختارت التصويت بـ"نعم" أو "لا" ومنها من قلبت الطاولة وغيًّرت موازين المعادلة.

كثيرة هي الملاحظات التي يمكن أن نصف بها هذا الاستفتاء، لكن برأيي أن أهمها هي هذه الملاحظات التي يمكن لكل واحدة منها أن تكون محور نقاش شيق وطويل...

1- الإقبال والمشاركة المرتفعة كانت صفة الاستفتاء الأولى، حيث وصلت المشاركة لـ85.6%، وهذا يدل على اهتمام المواطن التركي بهذا الاستفتاء من جهة، وإدراكه لأهمية المشاركة الوطنية، واحترامه لقيمة صوته من جهة أخرى.

2- تغيير الدستور، وشكل نظام الحكم لأول مرة بتركيا بإرادة مدنية وعبر صناديق الاقتراع الحرة، بعد 94 سنة من عمر الجمهورية التركية.

حيث كانت الدساتير تكتب بإرادة الانقلابيين والعسكر، وتفصل الصلاحيات حسب الحاجة والهدف.

3- خسارة الحزب الحاكم ولأول مرة منذ 23 سنة، لعاصمتي تركيا السياسية أنقرة، والاقتصادية إسطنبول. بالإضافة لمدن أخرى لا تقل أهمية عن ذلك، وهي أضنة وأنطاليا ومرسين وغيرهما، رغم التحالف مع الحركة القومية وقوة شعبيتها في كثير من هذه المدن.

4- عدم استطاعة العدالة والتنمية وللمرة الثانية، كسب أصوات الشباب وخاصة الشباب الجامعي، رغم كل الإنجازات الاقتصادية، ورغم وجود مادة بالاستفتاء خاصة بالشباب وهي خفض سن الترشح للبرلمان من 25 سنة إلى 18. وخاصة الشباب الذين صوتوا لأول مرة. مليون وثلاثمئة ألف هم من صوتوا لأول مرة من الشباب، 60% منهم صوت ضد الدستور، ومنهم من صوت آباؤهم للعدالة والتنمية. في مدينة أرضروم القومية المحافظة كانت نسبة "نعم" هي 60%، بينما صَوَّت 55% من طلاب الجامعة هناك بـ"لا". وهذا ينطبق أيضًا على جامعات قونية وقيصري، وهي قلاع للعدالة والحركة القومية. وترتفع نسبة تصويت الشباب بـ"لا" كلما ارتفعت الدرجة العلمية والمستوى الاقتصادي، وحسب الانتماء الجغرافي والعيش بالمدينة والمراكز، بدل المناطق والأرياف.

وهذا ما يستدعي من العدالة والتنمية التفكير بالشباب والشريحة المثقفة والمتعلمة. عليه أن يفكر لماذا صوت نصف مليون شاب بـ"لا" وهو يصوت لأول مرة.

5- لم تصوت المدن الساحلية والصناعية والغنية لصالح هذا الاستفتاء، وانضم لهم أصحاب الدراسات العليا، وسكان مراكز المدن والشباب، بينما صوت بنعم أهل الأرياف وأبناء الأناضول ووسط تركيا، والطبقة المتوسطة والفقيرة لصالح التغيير. وهذا مؤشر لانقسام مجتمعي جديد...!!

الأصوات التي رفضت الحزمة الدستورية وخاصة بالمدن الكبيرة كإسطنبول وأنقرة، هي الأصوات التي دعمت العدالة والتنمية حتى هذا اليوم، فالأرقام تشير إلى أن 13% من مؤيدي العدالة بالمدن صوتوا بـ"لا" هذه المرة. ففي منطقة الأيوب جاءت النتيجة بالرفض وفي الفاتح كانت بأقل معدلاتها.

فالطبقة المتوسطة التي اغتنت وارتفع دخلها الاقتصادي وانتقلت إلى البرجوازية الإسلامية، لم تعد تطرب لشعارت العدالة والتنمية قبل خمسة عشر عامًا وتغيرت مطالبها وأولوياتها...

6- انحياز الأكراد المحافظين "المتدينين" لفريق المؤيدين –رغم تحالف العدالة والتنمية مع الحركة القومية التركية - والتصويت بنعم بدل الانحياز القومي، غير المعادلة وعدل الكفة لصالح القبول، ولولا هذا الدعم الذي يقدر بـ1.5% لربما كانت تركيا تعيش اليوم مناقشات مختلفة. هذا التحول بالأصوات المؤيدة في جنوب شرق تركيا تراوح بين 10% و20% في بعض المناطق. وهذا مؤشر جيد وله دلالات هامة، وهي رسالة لكل من العدالة والتنمية ولحزب الشعوب الديمقراطية ولجبال قنديل أيضًا، وربما يكون هذا التحول المكسب الأهم في هذا الاستفتاء بعد مرور الحزمة الدستورية.

7- التحالف بين الحزب الحاكم والحركة القومية لم يرفع من نسبة الأصوات وخاصة في المدن التي تعتبر قلاع  الحركة القومية، وهذا دليل على أن اثنان زائد اثنان قد لا يساوي أربعة بالسياسة. وأن رئيس الحركة القومية لم يستطع أن يقنع قاعدته بهذا الاتفاق، وأن المعارضين داخل الحركة القومية عملوا ضد زعيمهم بهجلي، حيث تشير الأرقام إلى أن 70% من أنصار الحركة القومية قد صوتوا بـ"لا" في هذا الاستفتاء. ووصلت هذه النسبة إلى 80% في المدن. لكن يجب التذكير بأن دولت بهجلي هو الذي فتح الباب على مصراعيه أمام هذا الاستفتاء. والأرقام تقول إن تأثير أصوات الحركة القومية على نتيجة الاستفتاء كانت بحدود 3% وهي نسبة مرحجة بكل الأحوال.

استطلاعات الرأي والتوقعات  قبل الاستفتاء كانت تدور حول 54%، وكانت هذه النتيجة ستكون مقبولة ومرضية، لولا توقعات إحدى شركات الاستطلاع المقربة من العدالة والتنمية، حيث رفعت سقف التطلعات للفوز لـ60%، مما سبب نوعًا من خيبة الأمل لدى الفريق المؤيد، بعد انخفاض النتيجة لـ51.4 في المئة، رغم كسب الجولة ومرور الحزمة الدستورية.

عَمَّق من خيبة الأمل هذه نتائج المدن الكبرى وخاصة إسطنبول وأنقرة والمدن التي تعتبر مراكز القوة للتحالف المؤيد للاستفتاء.

لغة الأرقام وخاصة في الانتخابات الديمقراطية، لها دلائل كثيرة، وتحمل رسائل عميقة، وتحوي دروسًا وعبرًا بليغة لمن عرف كيف يقرأ هذه الأرقام ويفهم هذه اللغة.

حصل العدالة والتنمية بانتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي على 23 مليونًا و680 ألف صوت وبنسبة 49.4%، وحصلت الحركة القومية على 5 ملايين و690 ألف صوت أي بنسبة 11.9%.

مجموع النسبتين يعني 61.3% وعدد الأصوات 29 مليونًا و370 ألف صوت...

بينما مجموع من قال "نعم" 24 مليونًا و763 ألف صوت بنسبة الفوز المعروفة 51.4%.

والفارق بين المحصلتين فقدان ما يقارب 10% وعدد من الأصوات يصل لـ4.5 مليون صوت تقريبًا.

فهل  صوت هذا العدد بـ"لا" وهل ذهبت هذه النتيجة لصالح الفريق المعارض كلها...؟؟

وهل كانت هذه الأصوات هي وحدها التي رفعت أصوات الرافضين للاستفتاء ...؟؟

حصل الشعب الجمهوري في انتخابات تشرين على عدد من الأصوات بلغت 12 مليونًا و110 آلاف صوت، أي بنسبة 25.3%. بينما حصل الشعوب الديمقراطية على 5 مليون و148 ألف صوت بنسبة 10.7%. ومجموع المحصلتين 17 مليون و260ألف ونسبة تصل 36% فقط.

مجموع الاصوات الرافضة لاستفتاء الدستوري كانت 23 مليونًا و511 ألف ونسبة 48.6%.

يعني هناك زايدة بأصوات الرفض وصلت لـ6.5 مليون صوت تقريبًا...

لكن نسبة الأصوات التي خسرها التحالف بين العدالة والتنمية كما رأينا بالأعلى هي 4.5 مليون، ولو صوتت كل هذه الأصوات بـ"لا" فهي لا تقابل نسبة الزيادة بأصوات الرفض (6.5-4.5=2.5).

هذا يعني أن هناك 2.5 مليون صوت جديد انضم للفريق الرافض زيادة على المتخلين عن العدالة والتنمية والحركة القومية بالانتخابات البرلمانية الأخيرة...

وإذا أخذنا بعين الاعتبار شيئًا آخر وهام، وهو زيادة عدد المشاركين بالاستفتاء زادت مليون و200 ألف صوت جديد، مما يجعل هذه الأرقام أكثر أهمية وتحتاج للوقوف عندها كثرًا من قبل كل الأحزاب وعلماء الاجتماع والباحثين والمحللين.

وهذه المعادلة تنطبق على كثير من المدن التركية، حتى المدن التي تعتبر قلعة لكل من العدالة والتنمية والحركة القومية.

هذا يحمل الكثير من الإشارات التي يجب على العدالة والتنمية بشكل خاص الوقوف عندها مليًا والتمعن بها واستخلاص الدروس والعبر منها، وأظنه قد بدأ بهذا منذ الساعات الأولى لظهور هذه النتائج. وهذه هي عادته بعد كل انتخاب...

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس