جسور للدراسات

لم يكن استفتاء 16 نيسان/أبريل في تركيا شأناً تركياً داخلياً خالصاً، فقد ارتبط بقضايا السياسة الخارجية في عدة أبعاد، ومن المرجح أن تكون النتائج الناجمة عنه مرتكزاً لانعكسات مهمة على السياسة الخارجية التركية، خاصة أن تركيا تًدرك القصور الذي يعتري سياستها الخارجية بسبب مشاكل نابعة من نظامها السياسي البرلماني الحالي؛ وعدم التحكم الكامل من السلطة المدنية في كل قرارات السياسة الخارجية.حيث تُعاني الدولة التركية من وطأة البيروقراطية والبطء في اتخاذ القرارات، ولا تعطي العلاقة بين مؤسسات الدولة زخماً كبيراً في القضايا الخارجية، وقد تضعفها في كثير من الأوقات

وتعتمد الدبلوماسية التركية نظراً لهذه العلاقة بين مؤسسات الدولة على القوة الناعمة، في الوقت الذي يعتمد فاعلون آخرون في المنطقة، من دول وفاعلين دون مستوى الدولة، على القوة الصلبة لتثبيت الحقائق على الأرض، مما أضعف من موقف تركيا وأدى إلى محدودية خياراتها وإلى غياب التوازن في حركتها الخارجية .

كما أن الدبلوماسية التركية تتصف باعتمادها على أدوات تقليدية تحتاج للتحديث والتقوية؛ وعلى كوادر وموارد بشرية تحتاج للتأهيل والخبرة، وهو عامل شكّل عائقاً أمام تفعيل السياسة الخارجية للدولة التركية.

ويضاف إلى ماسبق أيضا تعرض البلد لكوابح داخلية بسبب المعارضة والمظاهرات التي بدأت في 2013 في أحداث غيزي بارك والأزمات المتعاقبة التي تعرضت لها الحكومة والتفجيرات التي قام بها تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني والمعركة مع جماعة فتح الله غولن وصولاً إلى محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016. وقد كان لكل ذلك تأثير على سلوك الدولة في الأزمات التي واجهتها في واقع إقليمي مليء بالاضطرابات وفي ظل الاختلاف مع قوى إقليمية وعالمية ودولية.

ويُشكّل الانتقال إلى المرحلة الرئاسية مرحلة جديدة في شكل الدولة التركية ككل، وسينعكس ذلك على مختلف سياساتها وبرامجها. وسوف نحاول في هذا التقرير قراءة الأثر المتوقع لهذا التحول على السياسة الخارجية التركية. 

كيف ستتأثر السياسة الخارجية؟

سيوفر تحول تركيا إلى النظام الرئاسي عددًا من العوامل التي ستساهم في تغيير شكل السياسة الخارجية التركية، ويمكن إجمال هذه التغيرات فيما يلي: 

1- سيوفّر النظام الجديد مركزية للقرار السياسي، حيث سيكون الرئيس هو القائد العام وهو المسؤول عن توجيه السياسة الخارجية، بما سيساعد على انسيابية دائرة صنع القرار، والتخفيف من وطأة البيروقراطية

2- سيؤدّي تغيير شكل منظومة القرار إلى زيادة التنسيق الفعال والسريع بين مؤسسات الدولة ذات العلاقة وتوحيد جهودها لتصب في صالح تحقيق الهدف العام .

3- القدرة على إحداث مؤسسات لازمة أو انشاء قوى مطلوبة.

4- سترتفع سلطة الجهاز السياسي على المؤسسة العسكرية، بما يمكّنه من إصدار القرارات المتعلقة بتنفيذ خطط وعمليات خارج الحدود أو فيما يتعلق بالتحالف العسكري مع الدول الأخرى، في الوقت الذي كان النظام السابق يتطلّب الحصول على إذن من البرلمان، وهو ما قد لا يتحقق في حال معارضة الأحزاب الكبيرة.

ونظراً لأن الرئيس سيكون هو القائد العام والمسؤول نظرياً وفعلياً عن توجيه السياسة الخارجية، فإن صلاحياته ستمكّنه من معالجة الإشكاليات وإزالة العقبات التي كانت تقيد حركة السياسة الخارجية التركية.

الانعكاس على أجندة السياسة الخارجية 

سيبدأ التطبيق الرسمي للتعديلات الدستورية بما فيها التحول إلى النظام الرئاسي في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2019، فيما ستكون الفترة الحالية حتى ذلك التاريخ هي فترة انتقالية للسياستين الداخلية والخارجية، حيث سيتم فيها التحضير بشكل مكثف للمرحلة القادمة.

ومنذ نهاية الاستفتاء، بدأ ظهور ملامح سياسة خارجية تركية نشطة، حيث حضرت القوة الخشنة إلى جانب القوة الناعمة، كما ظهرت الدبلوماسية التركية في أعلى درجات فاعليتها. 
فبعد أقل من عشرة أيام على الاستفتاء، قام الطيران التركي باستهداف مواقع لوحدات حماية الشعب في سورية ومواقع لحزب العمال الكردستاني في العراق، وأكدت تركيا أنها مستعدة للذهاب حتى النهاية لمنع إقامة دولة كردية في المنطقة، وأنها بدأت في تنفيذ استراتيجية استباقية في مواجهة الصعود الكردي (1) .

كما تم الإعلان عن سلسلة من الزيارات الرئاسية لمحطات إقليمية ودولية مؤثرة، ليكون بذلك شهر أيار/مايو من أعلى الشهور فاعلية من الناحية الدبلوماسية الرئاسية، حيث تتضمّن أجندته زيارة هي الأولى إلى الهند، ولقاء هو الأول من الرئيس الأمريكي الجديد، وزيارة إلى روسيا والصين، وحضوراً لقمة الناتو في بروكسل، وزيارات لعدّد من دول الخليج العربي.

وتشير طبيعة الدول المستهدفة في هذه الزيارات إلى ترتيبات سياسية واقتصادية كبيرة ومؤثرة على مستقبل السياسة الخارجية. ويحظى لقاء أردوغان –ترامب بأهمية خاصة بطبيعة الحال، ويبدو أن الجانب التركي يذهب إليه بسقف توقعات مرتفع، وستؤثّر نتائجه على شكل وطبيعة السياسة الخارجية التركية. 

سوريا: العلاقة مع الولايات المتحدة وروسيا

يحظى ملفا اعتماد واشنطن على القوات الكردية في سورية وملف جماعة غولن على أهمية خاصة في العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة. ويمتلك الملف الأول حساسية وخطورة أكبر بالنسبة لأنقرة.

وتحاول تركيا في هذا المجال البحث عن حالة توازن بين المصالح الأمريكية الراغبة في التخلص من تنظيم داعش، والمصالح التركية في عدم إقامة كيان كردي على حدودها مع سورية. 

ورغم أن الإدارة الأمريكية، وتحديداً وزارة الدفاع، ما زالت ترى في قوات سورية الديموقراطية الشريك المناسب لعملية الرقة، فإنّ أنقرة تراهن على تغيير هذه المعادلة خلال اللقاء المرتقب مع ترامب. 

وبكل الأحوال فإن من المتوقع أن يتصاعد الانخراط العسكري التركي في سورية، وربما تتحرك تركيا بشكل فردي عسكرياً أو تدخل في عملية مشتركة مع قوات كردستان العراق ضد حزب العمال في سنجار، كما لا يستبعد أن تقوم بشن حملة على القوات الكردية بين تل أبيض والرقة (2) . 

وإلى جانب تفعيل قوتها الصلبة، يتوقع أن تقوم تركيا ببناء علاقات أكثر قوة وتنظيماً مع المعارضة ومع العشائر، وستحاول فرض رؤيتها بالشمال بشكل أكثر قوة وحسماً.
العلاقة مع روسيا

أما فيما يتعلق في العلاقة مع روسيا فإن السياسة التركية تؤكد أنها لا تنظر إلى موسكو وواشنطن كبديل لبعضهما البعض بل تتبنى معادلة توازنية في إدارة العلاقة بينهما، وستحاول بعد نتيجة الاستفتاء أن تناقش مع روسيا مستقبل الأسد في ظل موقف الأسد الحالي، كما تركز أيضاً على استمرارية العلاقات التجارية والمشاريع الاقتصادية بين البلدين.

العلاقة مع أوروبا

لعل أبرز الملفات التي طفت على سطح أجندة السياسة الخارجية قبل الاستفتاء هو ملف التوتر التركي الأوروبي الذي ترافق مع منع دول أوروبية مثل ألمانيا وهولندا والنمسا لمسؤولين أتراك على رأسهم وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو من اللقاء بالناخبين الأتراك في هذه الدول، حيث يشكل الأتراك في الخارج كتلة تصويتية أثبتت أن لها تأثير مهم في النتيجة خاصة في حالة التقارب الذي شهدها الاستفتاء الذي أسفر عن نتيجة في صالح تطبيق التعديلات الدستورية في نهاية 2019 بنسبة تصويت بلغت 51.4% . 

وقد استمرّ التوتر في العلاقات التركية الأوروبية بعد الاستفتاء، وإن كان بوتيرة أقل، وتبع ذلك انتقال للحديث عن ملف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقد هدد أردوغان الاتحاد الأوروبي بأنه إذا لم يقم " بفتح فصول جديدة في مسيرة انضمام تركيا إلى الاتحاد، فإن هذا سيكون بمثابة نهاية لمحاولات تركيا في الانضمام". 

كما رفضت تركيا الطلبات الأوروبية والغربية بإلغاء حالة الطوارئء، مطالبة الأوروبيين بتقديم طلب ممثال لباريس لإلغاء حالة الطوارئ قبل تركيا (3) ، وبالرغم من هذه اللهجة إلا أن سياسة تركيا الخارجية التي اكتسبت زخماً أكبر بعد الاستفتاء- ستعمل ربما على إدارة العلاقة بطريقة أكثر عقلانية مع أوروبا، حيث تنطلق تركيا في ذلك من خلال التهديدات والمصالح المشتركة بين الطرفين.

العلاقة مع دول الإقليم

ستتبع السياسة التركية ضمن خط عام سياسة تكثير عدد الأصدقاء، وقد انتهجت هذه السياسة مع إسرائيل والإمارات، ومع حرص تركيا على إدارة علاقاتها مع إيران بشكل غير طائفي بالرغم من الخلافات السياسية إلا أن العلاقة  يبدو أنها متجهة إلى التوتر، لذلك فإن هذه السياسة ستكون في حالة اختبار في المرحلة القادمة 
كما يتوقع أن تتجه علاقات تركيا إلى التحسّن مع دول الخليج عموماً، خاصة إذا ما تمّ كسر الجليد بشكل تام مع الإمارات العربية المتحدة، ونقل العلاقة التركية-السعودية إلى مستوى استراتيجي، وهو ما تحتاجه الرياض وأنقرة على حدّ سواء. 

خاتمة

يعد النظام الرئاسي في تركيا أحد عوامل الاستقرار الداخلي على مستوى النظام السياسي وهو ما سيوفر استقراراً أكبر في شكل واتجاه السياسة الخارجية، لكن هذا يعتمد أيضاً على طبيعة الجهات والأزمات الخارجية التي ستتعامل معها تركيا، أما في ظل قضايا الواقع الحالي فإن النتيجة تبدو كفرصة جيدو لصانع القرار التركي لاستدراك نقص وعيوب السياسة الخارجية السابقة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!