محمد زاهد جول - أخبار تركيا

من فلسفة حزب العدالة والتنمية في بناء الدولة التركية القوية والمتقدمة صناعة المصالحة الداخلية بين كل القوميات التركية، وفق سياسة الانفتاح الديمقراطي على حقوق كل القوميات التي حرمت من بعض حقوقها منذ نشأت الجمهورية، فقد زالت الأسباب التي اضطرت الدولة التركية حرمان القوميات التركية العديدة من حقوقها منذ تأسيس الجمهورية، فقد كانت المخاوف أن تتحول الحقوق القومية إلى مشاريع تقسيم وتجزئة لأراضي الدولة التركية أكثر مما حصل عند إسقاط الدولة العثمانية، فالقوى الاستعمارية استغلت تلك الحقوق لتجزئة الدولة العثمانية، فكانت حروب التحرير والاستقلال (1919-1921) قبل قيام الجمهورية التركية قد خاضت حروبا كبيرة للحفاظ على أراضي الدولة التركية موحدة سياسياً، حماية لها من الأطماع الاستعمارية التي جزأت الدولة العثمانية وتركتها ضعيفة ومحتاجة ومتخلفة لأسباب استعمارية.

زوال تلك المخاوف أو ضمان زوالها كان يمكن ان يفتح حوار المصالحة الداخلية بين كل أبناء الشعب التركي منذ زمن بعيد، ولكن قيام حركات انفصالية لأي قومية كان حائلاً حقيقياً للشروع في عمليات المصالحة الداخلية، وبالأخص إذا قامت بأعمال عسكرية إرهابية كما فعل حزب العمال الكردستاني منذ عام 1985، سواء كان بفعل ذاتي انفصالي، أو كان اداة للقوى والدول المعادية لتركيا مثل النظام السوري والحركات اليسارية الارهابية، فكانت الحكومات التركية وبالأخص اليسارية منها والعلمانية القومية تواجه العنف بالعنف، ولكن دون فائدة ولا مصلحة للشعب التركي ولا الشعب الكردي، وهو ما تطلب من كلا الطرفين المراجعة الصادقة والشجاعة في فتح صفحة المصالحة وطي صفحة الدماء والجراحات وآلامها، ولذلك كانت سياسة المصالحة رؤية استراتيجية لدى حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى السلطة، فكانت اصلاحاته الديمقراطية وحزمها المتتابعة، وحماية حقوق الإنسان وفق المقاييس والمعاهدات الأوروبية هي بوابة التعامل مع كل أطياف الشعب التركي، بغض النظر عن قوميته او لغته او عرقه أو طائفته الدينية او المذهبية، لأن القوانين الجديدة كانت تعالج قضايا الشعب التركي وليس قضايا الأكراد ولا العرب ولا الشركس ولا الأرمن ولا المسيحييين ولا العلويين وحدهم، فكل هؤلاء وغيرهم هم من أبناء الشعب التركي، والقوانين والدستور يعالج قضايا الشعب التركي بعدل ومساواة في الحقوق والواجبات.

تقدمت حكومات العدالة والتنمية اكثر من مرة لطرق باب المصالحة الداخلية، والشروع في عملية المصالحة الداخلية، وبالأخص مع الأخوة الأكراد، ومع القيادات الرئيسية لتوجهات الشارع الكردي في تركيا، ففتحت قنوات المباحثات مع عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني بالرغم من كونه مداناً من المحاكم التركية ويقضي حكم السجن المؤبد في السجون التركية، لأنها تعلم أن عبدالله اوجلان هو الشخصية الأولى في نظر الأكراد داخل تركيا وخارجها، فتباحثت معه وفق أصول التباحث مع سجين، مع توفير السبل التي يسمح بها القانون التركي لتواصل أوجلان مع قطاعات الشعب الكردي السياسية والعسكرية، مثل حزب الشعوب الديمقراطي الذي يعتبر وسيطا بين الطرفين، وقد توصلت الحكومة التركية في شهر نيسان من العام 2013 إلى اتفاق مبدئي، يقوم على أساس تبني الحل السلمي السياسي، وإلغاء العمل العسكري من قبل حزب العمال الكردستاني، وقد تفاءل الشعب التركي بذلك الاتفاق المبدئي، وبالأخص انهم رأوا رحيل مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى الجبال، وهو ما شكل تحد آخر بتشكيل قيادة موازية للأكراد في جبال قنديل بمثابة قيادة عسكرية قد لا توافق القيادة السياسية لعبدالله اوجلان في سجنه في جزيرة إمرلي التركية.

هذه القيادة الكردية العسكرية في جبال قنديل ومعهم عبدالله أوجلان وقعوا ضحية مؤامرة سياسية صنعتها أمريكا بالتعاون مع جهات أخرى منها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري بخلق ازمة عالمية اسمها ازمة عين العرب – كوباني، وأنها مهددة بالسقوط ولا بد من الاستنفار الدولي لمنع سقوطها، علماً بان عشرات المدن العربية والكردية قد سقطت قبلها دون هذه الضجة الاعلامية، وعلماً بأن سكان عين العرب كوباني قد هرب منهم 130 ألف إلى تركيا خلال يومين فقط، وزاد عددهم إلى 200 ألف بعدها بأيام، فأصبحت كوباني خالية من السكان المدنيين، ولم يبقى فيها إلا 2000 مقاتل من قوات حماية الشعب الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، وكلاهما جناحان لحزب العمال الكردستاني، الذي حارب تركيا عشرات السنين ولم يتوصل بعد إلى اتفاق نهائي مع الحكومة التركية لحل المسألة الكردية في تركيا، لذلك قامت الدعايات الكاذبة ضد الحكومة التركية بانها لا تدافع عن سقوط كوباني، وشارك الأكراد بهذه الأكاذيب بل وقاموا باحتجاجات داخل تركيا أودت بحياة عشرات القتلى في صراعات بين أحزاب كردية متصارعة، فأدركت عندها القيادات الكردية سواء كانت في إمرلي أو قنديل بان الحكومة التركية لن تقع ضحية مؤامرة دولية تريد سفك الدماء الكردية والعربية والتركية أنهاراً بغير وجه حق، وهي تدعي أنها في حرب دولية ضد تنظيم داعش.

لقد كان لتلك الاختلافات بين الأكراد والأتراك آثارا سلبية على عملية المصالحة الداخلية، ولكن الأحزاب الكردية وقد ادركت صلابة الموقف التركي وحزمه في رفض المؤامرات على الدولة التركية وعلى شعوب المنطقة بما فيهم الأكراد أن تراجع مواقفها الخاطئة، وفي خضم هذه التناقضات فإن الحكومة التركية قدمت وكشفت عن خارطة الطريق لحل المسألة الكردية، وقد جعلتها في ست نقاط، وكانت قد فاوضت عليها عبدالله اوجلان في امرلي، مطالبة إياه أن يطلع القادة الأكراد عليها، وبالأخص في جبال قنديل، ولكن عبدالله اوجلان لم يطلع القيادات التركية عليها، مما استدعى ان تكون خارطة الطريق معروفة للأخوة الأكراد بما فيهم مقاتلي جبال قنديل وكافة القوى السياسية الكردية والتركية، وهذه الخارطة وضعت بطريقة تعتمد كل خطوة منها على نجاح التي قبلها وتطبيقها أيضاً، وهذه المواد الستة تتضمن الأفكار التالية:

1 ـ مطالبة عبدالله أوجلان أن يوقف المحاكم والعمليات العسكرية التي تظهر بشكل كيان موازي في المنطقة الجنوبية الشرقية من تركيا، والتي تقوم بتجميع المقاتلين الأكراد من الشباب الصغار طوعاً وكرهاً وخطفاً.

2 ـ عندما يعترف المسؤولون في جبال قنديل بهذه العملية السلمية ويطبقون المادة الأولى، فإن أوجلان سينقل من حجرته في السجن إلى حجرة اوسع، ليعمل مساع لإحلال السلام، وتشكل له امانة عامة أو سكريتاريا لتعاونه في مباحثات السلام.

3 ـ من مهمات السكرتاريا أن تعلن إلى الأكراد نتائج المباحثات مع الحكومة التركية، فتكون لها صفة التواصل مع الأحزاب والقوى الكردية.

4 ـ تشكيل لجنة حكماء من 12 ـ 14 شخصاً، لمواصلة عملية السلام ويسمى أعضاؤها العين الثالثة، يسمح لها ان تقابل أوجلان في سجنه، ويسمح لها مقابلة الصحفيين لاطلاعهم على نتائج المباحثات مع الحكومة التركية.

5 ـ إذا دعم المسؤولون الأكراد في جبال قنديل قرار أوجلان انهاء العمليات العنفية والارهابية من الكيان الموازي الكردي في جنوب وشرق تركيا، فإن الحكومة التركية تقوم بتعديل قوانين مكافحة الارهاب، وتحول الحكومة هذه القوانين إلى المجلس النيابي، وتبدأ المباحثات الرسمية بين قنديل وبين الحكومة التركية.

6 ـ بعد المرحلة الخامسة سوف يعلن تنظيم حزب العمال الكردستاني أن مقاتليه يلقون الأسلحة ويغادرون البلاد، ويعلن نهاية العمليات المسلحة نهائيا، وتبدأ بعد ذلك عملية تعديل الدستور التركي الذي وضعه العسكر، الذي وضعه العسكر بعد انقلاب 1980، ولم يكن فيه حقوقاً كافية لكل القوميات التركية.

إن تعديل الدستور الحالي هي خطوة ضرورية لإيجاد مصالحة شاملة بين ابناء الشعب التركي كله، لتكون كافة القوميات التركية متساوية امام القانون والدستور، وليس مجرد مصالحة مرحلية فقط، وهذا يتطلب أن تبذل الأحزاب الكردية رؤية ايجابية مقابلة، فالأعمال العسكرية الارهابية فشلت خلال ثلاثة عقود من تحقيق شيء، ومجرد افتراض ان ظروف الحرب على داعش قد تساعد الأكراد على تنفيذ حركة انفصالية في سوريا أولاً ثم في تركيا ثانياً، إن مثل ذلك الافتراض سوف يدمر كل مشروع المصالحة، وسوف يؤدي إلى تخلي أبناء القومية  الكردية في تركيا عن هذه الأحزاب الكردية اليسارية، التي فشلت حتى الآن في تحقيق أمنيات الأكراد في تركيا في الاستقرار والتقدم، بينما باقي الشعب التركي بكافة قومياته يتقدم ويزدهر في ظل حكومة ودولة تركية منسجمة مع بعضها، وتستند إلى إرادة شعبية واسعة، أي أن الخسارة سوف تلحق بالأخوة الأكراد، وبقياداتهم الذين يقتلون أبناء الشعب الكردي في معارك وهمية وخاسرة، ولا تخدم إلا القوى الاستعمارية الحاقدة.

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس