عدنان عبد الرزاق - العربي الجديد

أذكرها كما لو كانت للتوّ، كنت وأصدقاء في ساحة تقسيم ليلة 15 يوليو/تموز العام الماضي، وكنا شهود عيان على ما جرى، في أهم مناطق إسطنبول على الأقل.

رأينا مثل كثيرين، كيف بدأت ملامح الانقلاب، وكيف تطورت إلى ما قبل فقدان الأمل بـ"حكم مدني"، وخاصة بعد تلاوة بيان انتصار الانقلابيين، وكيف تكلمت مع المرحوم، عبد القادر عبد اللي، علّ الصورة تتضح أكثر، وأنا السائر في شوارع إسطنبول، أحاول تأريخ اللحظة واستشفاف ما يمكن أن يجري.

شدّني من المشاهد ما لا يمكن للسنين محوه، وربما استبسال الأتراك جميعهم، بالدفاع عن الديمقراطية ومكتسباتهم، أهمها. ولفتني وقتذاك الفارق بين دبابة تقتل الشعب في دول الربيع العربي، وشعب يتصدى لدبابة في بلد يسعى إلى الديمقراطية، وكيف يستخدم القادة هناك السلاح ليقتلوا حلم الشعوب، وكيف أن الشعب هنا يتصدى للسلاح ليحافظ على الحلم والواقع.

بيد أن مشهداً ما زال في الذاكرة، أو بصيغة أدق، أحيته مآذن المساجد ليل 15 تموز الجاري، وقت بدأت مساجد إسطنبول، وبتوقيت واحد، في الساعة 12 و13 دقيقة بالأذان والتكبير.

وعادت بي الذاكرة، وقت كنت العام الفائت وبالتوقيت نفسه، في حي الفاتح في إسطنبول، وقت بدأت المآذن بالأذان والتكبير وكيف خرج الأتراك بمختلف أعمارهم وانتماءاتهم إلى الشوارع، ليدافعوا عن تركيا الدولة أولاً، والديمقراطية ثانياً، قبل أن يفكروا بمن هم الانقلابيون أو على من ينقلبون.

قصارى القول: تتعدد مستويات وطرائق أدوار المساجد، خصوصاً ودور العبادة بشكل عام، بالعالم وفي منطقة الشرق الأوسط التي تغلب عليها الروحانيات.

بيد أن لتركيا مع المساجد حكاية مختلفة، ولا ضير من إعادة بعضها على الأقل، بعيد وصول مصطفى كمال أتاتورك إلى السلطة. إذ شهدت المساجد في تركيا، بعد إلغاء الخلافة العثمانية، وإعلان الجمهورية التركية عام 1923، تضييقاً على دورها، والمهام التي كانت تقوم بها، سواء الروحية أو الاجتماعية والسياسية.

وفي عام 1925، مُنِع رفع الأذان وأداء الصلاة في أيا صوفيا، التي تعد رمزاً لفتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح. وفي نفس العام قررت الحكومة التركية الجديدة بزعامة مصطفى كمال أتاتورك تحويل القرآن الكريم إلى اللغة التركية وقراءته بها بدلاً من العربية.

وفي فترة حكم عصمت إينونو، الذي جاء بعد أتاتورك، تم تحويل بعض المساجد إلى إسطبلات أو بيعها. وفي قانون الموازنة العمومية الذي صدر عام 1927، وردت مادة متعلقة بما سُمي في ذلك الحين "مشكلة الجوامع في تركيا"، تقول المادة إن تركيا تملك الكثير من الجوامع، وأكثرها فائض عن الحاجة، ولذلك يجب إغلاق أو تدمير العديد من المساجد.

في عام 1928، ووفقاً لهذا القانون تم تدمير المساجد في الكثير من المدن في تركيا مثل؛ توكات على البحر الأسود، وأماسيا وجوروم على البحر الأسود، وكوتاهيا في منطقة الأناضول الغربية، وأضنة في جنوب تركيا، وأسكي شهير وسط تركيا.

واستخدم أيضاً "مسجد كعبة" في مدينة توكات مخزناً لمدة عشر سنوات، ومسجد "علاء الدين" الذي بني بأمر من السلطان السلجوقي علاء الدين كيتوبات في مدينة جوروم كان سيهدم، ولكن تم الاكتفاء بإغلاقه بعد اعتراض أهالي المدينة، و"مسجد جارشي" في مدينة قرشهير وسط تركيا تم إغلاقه لمدة أربع سنوات وحظر العبادة فيه. ودُمّر "جامع الأصفر" في ميدان بورصة بذريعة أن الصلاة لا تُقام فيه، وذلك على يد رجال الدرك عام 1939.

وقد استخدم "مسجد غوكسو"، الذي بني بأمر من زوجة السلطان مصطفى الثالث "السلطانة مهري شاه" قرب منطقة حصار في إسطنبول، مقراً لحزب الشعب الجمهوري، وذلك عقب القانون الذي صدر عام 1941 المتعلق بالمساجد، ورُفع على مدخل المسجد علم الحزب. وكذلك "جامع علي ده ده" في مدينة أضنة، استخدم مقراً لحزب الشعب الجمهوري لمدة سبع سنوات.

كما استخدم مسجد "علاء الدين" في قونيا وسط تركيا، ومسجد "محمد باشا" في غازي عنتاب جنوب تركيا كإسطبل لمدة طويلة. وتمَّ تحويل مسجد "جديد مصطفى" في مدينة سيواس إلى سجن في فترة حكم حزب الشعب الجمهوري.

وظل مسجد "آغا" ومسجد "كاتب مصطفى جلبي" الذي يقع بمنطقة تقسيم في إسطنبول مغلقاً منذ عام 1931، وفي عام 1941 بيع من قبل الدولة وتم تدميره، وشُيّد مكانه بناء من ثلاثة طوابق.

ونشر القانون الذي أصدر عام 1935 لإغلاق وبيع المساجد والجوامع في 22 من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1935 في جريدة رسمية.

كما أن هناك أهمية خاصة وتاريخية، لفترة رئيس الوزراء عدنان مندريس (1899م – 1961م)، الذي عزم عقب فوز حزبه في الانتخابات البرلمانية وتشكيله الحكومة عام 1950م، لرفع الأذان باللغة العربية، وكيف أوصله قراره، وغيره طبعاً من القرارات والإجراءات، إلى حبل المشنقة في 17 أيلول/سبتمبر عام 1961.

ولكن، كل تلك المراحل والتقلبات، وعلى أهميتها، لا أعتقدها ترقى للدور الذي تخطط له تركيا اليوم، بهدف مهام المساجد وعلى عكس المتداول والمألوف.

فالدور الاجتماعي اليوم، أو استعادته، هو أهم الخطط الذي تعمل عليها تركيا، كي لا تدور المساجد في دوائر الأدوار الروحية فقط، وربما بذلك، إحياء لدور المساجد أيام الخلافة والدولة العثمانية، والتي منها على سبيل الذكر ليس إلا، فتح موائد مجانية للصائمين، في صحون الجوامع والساحات العامة، وفتح المساجد خارج أوقات الصلاة للجميع، لتقوم بأدوار تثقيفية وسياسية وتنموية، إضافة لدورها الروحي.

اليوم، تعمل تركيا على تقسيم المساجد إلى مجموعات بحسب مواقعها، وذلك بهدف إحياء دورها بشكل أكبر في المجتمع، حيث ستقسم المساجد إلى فئات بحسب الموقع الجغرافي، مثلاً مساجد الأحياء، ومساجد الأسواق، ومساجد الميادين، ومساجد التجمعات السكنية، وأن كل مسجد سيحتوي على معايير واجب توافرها وأماكن خاصة بكل فئة من الفئات.

والهدف العام والمعلن، كي لا تبقى المساجد مكاناً للصلاة فقط، بل ستضم أيضاً أماكن يمكن للمواطنين الالتقاء والجلوس فيها، وأماكن للقراءة، كما ستصبح المساجد أماكن يمكن للمواطن الذي يشعر بالضيق من كثرة الجلوس بين الجدران الخرسانية في الأبنية والشقق أن يذهب إليها ويلتقي أقرانه.

نهاية القول: من ميزات تركيا الوارثة لآخر خلافة إسلامية، أن فيها 84684 مسجداً، تتربع إسطنبول على قائمة احتضان المساجد بنحو 3269 مسجداً، وبدأت منذ وصول حزب "العدالة والتنمية" عام 2002 استغلال هذه الميزة على نحو يتناسب والأحلام التنموية، أو الإمبراطورية إن شئتم، فغيّرت من مفاهيم دور ومهام المساجد، بعد أن فتحت أبوابها للجميع، حتى نالت من الثقة والحضور، ما أخرجت مآذنها معظم الأتراك بمدن إسطنبول وأنقرة، ليواجهوا الانقلاب الفاشل الذي مرت ذكراه الأولى قبل أيام.

عن الكاتب

عدنان عبد الرزاق

صحافي وكاتب سوري مقيم بإسطنبول منذ 2012


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس