احسان الفقيه - خاص ترك برس

كما قيل في المثل العربي "وقطعت جَهِيزة قول كل خطيب"، جاء خطاب أمير قطر قاطعا لكل التكهُّنات والتخرُّصات التي ملأت الآفاق منذ اندلاع الأزمة الخليجية وفرض الحصار او المقاطعة او العدوان الإلكتروني والنفسي، على الدولة القطرية.

الجميع كان يترقّب ويستشرف مآلات الحصار، هل تستسلم قطر للإملاءات وترضخ للشروط التعجيزية؟ أم تستمر في المواجهة والاحتفاظ بحقها في السيادة على أراضيها وقراراتها السياسية؟ ولكُلٍّ ثمنه وتبعاته.

وفي ظل التخرصات جاء الخطاب الرسمي المُتلفز الذي عنون له الأمير بخطاب العقل والوجدان، وقد أحسن في مُنطلقاته، إذ يكمل كلا الجانبين الآخر، وأما أنا فأسميته خطاب الصمود وصوتُ الأمل، وتلك حكاية نُسجت تفاصيلها في نفسي التوّاقة الى زمن العزّة والكرامة والفروسية في السلم كما  في الحرب، ولكُلٍ منّا نظّارته التي يرى ويقرأ بها الأحداث.

الصمود كان عنوان ملحمة شعبية قطرية، تمثّلت في سرعة ودِقّة قراءة القطريين للمشهد وأبعاده، حيث أدركوا أن ثمّة مؤامرة على السيادة والإرادة، وتصدى القطريون لذلك الاستهداف بشكل وصفه أميرهم في خطابه، بأنه عفوي وطبيعي، في إشارة تحمل إشادة بنُضج القطريين، مؤكدا على المستوى الأخلاقي لهذا الشعب مقابل التحريض والتحرُّش والاستفزاز الذي يصدر عن الجانب الآخر.

نقطة مضيئة في سجل الشعب القطري تُحسب له، تأخذ من ذات الملمح الذي ظهر به الأتراك في التصدي للانقلاب الغاشم الذي استهدف وطنهم، وفي الحالتين ظهر الوعي بالتحديات.

لقد خرج تميم ليعلن في خطابه انتصار الشعب القطري على الحصار، وفي هذا إعادة تعبئة وتأهيل للقطريين، لمواجهة تحديات المرحلة القادمة التي لا تخلو من توقعات بالتصعيد، وكلمة السر في ذلك الصمود الشعبي، كانت الإيمان الجازم بعدالة القضية وسلامة الموقف القطري.

الصمود قد لاح في خطاب تميم عندما أكد على قناعاته السابقة في ضرورة وضع الأمور في نصابها وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية، حيث أكد –كما فعل حليفه التركي أمام ميركل- أن الإسلام ليس مصدرا للإرهاب، وإنما مصدره أيديولوجيات متطرفة نأت عن تعاليم الدين، لكنه يُصرح في الوقت نفسه بأن التطرف العلماني لا يقل خطرا عن التطرف الديني كمصدر للإرهاب، ولم ينس التعريج على البيئات الاجتماعية والسياسية التي تنتج اليأس والإحباط كسبب رئيس في نمو الإرهاب، حيث الفقر والاضطهاد والاحتلال وغيرها من عوامل لا ينبغي تجاهلها من أجل مواجهة الإرهاب.

عندما تطرق تميم إلى هذه النقطة المتعلقة بخلافه مع الآخرين حول مصادر الإرهاب، تذكرت ذلك الزعيم العربي الملهم الذي يُصرُّ في كل مناسبة على اتهام المسلمين والتراث الإسلامي بالتطرف وتحميلهم المسؤولية عن العنف في العالم بأسره.

ذلك التعيين والتحديد في خطاب الأمير هو الذي ينبغي أن يكون فيما يتعلق بالإرهاب الذي أصبح ثوبا فضفاضا يتسع لكل مخالف في الفكر والرأي.

 وانطلاقا من ذلك التأصيل – أو قُل من هذا الصمود- أوضح تميم ضرورة التفريق بين المقاومة المشروعة للمحتلين وبين الإرهاب والتطرف، وأنه يختلف مع دول المجلس حول قضايا المقاومة وتطلعات الشعوب التوّاقة للحرية، رغم تأكيده على عدم فرض تلك الآراء على الدول المخالفة.

ثم يؤكد تميم على ما قيل سابقا وحاليا على لُب القضية وهي محاولة هذه الدول المساس بمبدأ السيادة القطرية والإرادة المستقلة، وبالثورة الإعلامية التي أحدثتها الدولة القطرية في إشارة إلى صرْحها الإعلامي المتمثل في قناة الجزيرة، التي يأتي إغلاقها على رأس مطالب دول الحصار.

هنا يؤكد تميم على صمود القيادة القطرية وإصرارها على الاحتفاظ بتلك الحقوق وعدم السماح بالمساس بها، وأنه لا يمكن الرجوع عنها إلى الخلف، ويقول قول الفصل في القضية، حيث شدّد على أن الحل لابد أن يعتمد مبدئين: الأول هو احترام السيادة القطرية، والثاني ألا يأتي في صيغة إملاءات، بل تعهدات متبادلة والتزامات مشتركة في ظل الحوار البناء.

ثم كان الصمود في التأكيد على الموقف القطري الداعم للقضية الفلسطينية، والذي لم يتغير رغم حصار الدول الرامية للتطبيع، ففي الوقت الذي تستحي الحكومات العربية من إصدار بيانات إدانة للاحتلال على جرائمه إزاء الأقصى، يستنكر تميم في خطابه إغلاق أولى القبلتين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلن تضامنه مع الفلسطينيين.

خطاب أمير قطر كان مفعما بالأمل أيضا..

الأمل الذي يرتكز على البيان الرباني {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}، فقد دفعت الأزمة الشعب القطري لاستكشاف قيمه الإنسانية ومواطن قوته وإرادته وعزيمته، والتزامه بالإطار الأخلاقي السامي وعدم المعاملة بالمثل مع رعايا دول الحصار داخل قطر، بما يبشر بمرحلة جديدة من الرقي المجتمعي ترتكز عليها الدولة في نهضتها.

كما أكد تميم على أن الأزمة أصقلت الحكومة القطرية بوزاراتها ومؤسساتها المختلفة حيث واجهت الأحداث بحكمة واقتدار، ووفرت كل احتياجات الشعب، واستفادت منها في تشخيص النواقص والعثرات أمام تحديد شخصية قطر الوطنية المستقلة وفي اتخاذ القرار بتجاوز العقبات بحسب تعبير الأمير القطري.

وفي ظل الأزمة الخانقة، يُدشّن تميم عبر خطابه لمرحلة اقتصادية جديدة، يستثمر فيها الأحداث الصعبة في إطلاق رؤية جديدة لبناء الاقتصاد الوطني، يُبقي على استقلالية القرار القطري، والذي يأتي حتما بعد إنتاج الغذاء والدواء ذاتيا، وتنوع مصادر الدخل.

لقد وجّه تميم إلى فتح الأبواب للاستثمار والانفتاح الاقتصادي على الدول الأخرى إقليميا وعالميا على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، إضافة إلى التوجيه بتطوير المؤسسات التعليمية والبحثية والإعلامية والقوة الناعمة القطرية، وهي العناصر اللازمة لعملية النهوض الشامل.

لقد حمل الخطاب الأمل للأجيال الحالية والقادمة، حيث كانت التوجيهات في الخطاب بالاستثمار في التنمية وخاصة التنمية البشرية، بما يمكن معه تحقيق الاستفادة القصوى من الأفراد، ثم التوجيه بتخصيص الاكتشافات الجديدة للغاز للاستثمار من أجل الأجيال القادمة، إنها رؤية شاملة تمت صياغتها في هذه الظروف الصعبة.

هكذا تضمن الخطاب الصمود والأمل، وأما ردة فعل الجانب الآخر، فيمكن للقارئ استكشافها من خلال عناوين المواقع والصحف التي علّقت على خطاب تميم، وفيها ما فيها من الاستخفاف بعقلية المشاهد العربي:

"مستشار بالديوان الملكي السعودي عن كلمة تميم: إنشائية أعدها عزمي بشارة" ، يا لسُخف القائل وعبثه المُستمر بالبسطاء والطيبين الذين يهابون منصبه ولن يعنيهم اسمه او رسمه في حال دارت عليه الدوائر والدُنيا دول.. 

" ليبرالي مقيم في الخارج: خطاب تميم المرتقب عبثي كتبه عزمي وباركه القرضاوي بتعليمات البابا" ، سطحية مُنقطعة النظير ، تؤكّد هشاشة عقلية الخصم وقلّة دينه في التلفيق والكذب، انتصارا لشيطان الخصومة ..

"أستاذ طب نفسي: تحليل خطاب تميم يثبت ارتباكه وتوتره وخوفه على السلطة" ، مع أن الذي بدى لكل عاقل حكيم هو العكس..

"مستشار حكومة دبي عن خطاب تميم: أسلوب مهلهل ركيك استعلائي ويزيد الأزمة" ، فاصل ضاحك من قبل الكاتبة ومُحرر تُرك برس، والقراء معا .. 

فعليا .. من يطالع الخطاب المتلفز، يرى مدى السخف الذي أطلت علينا به تعليقات المواقع العربية التابعة لدول الحصار او المقاطعة، كما يُحب تسميتها بعض المساكين المجروحين واحتراما لهم أضع ( الوصف ) خاصّتهم، بعد الوصف الصحيح ..

"عجزي كنزي"، عبارة أطلقها بديع الزمان النورسي وسارت مثلا سائرا فيمن يحول المحنة إلى منحة، فكأن هذه الأزمة أوقدت النار في القطريين لقطع المسافات بالصمود والأمل.

عن الكاتب

احسان الفقيه

كاتبة أردنية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس