د. مصطفى الستيتي - خاص بترك برس

يبدو أن الجزائر قد دخلت بقوة على خطّ الدّفع بالأطراف المتصارعة في ليبيا إلى الجلوس على طاولة الحوار، فكل تأخير في حلّ الأزمة في هذا البلد يزيد من تعقيدها وتفاقمها، ويفتح الباب أكثر لتدخّلات أطراف أجنبية لديها مصالح كبيرة في استمرار الوضع مشتعلا ومتفجرًا.

الجزائر بدأت في الاتّصال بتركيا وقطر اللّتين تمتلكان أوراقا قوية في الصّراع داخل ليبيا، وخصوصا بعض الجماعات المسلحة التي تسيطر على العاصمة طرابلس. وفي هذا السّياق جاءت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الجزائر يوم 19 نوفمبر الجاري، ولئن بدت الزّيارة تكتسي طابعا اقتصاديّا باعتبار الحشد الكبير من رجال الأعمال الذين رافقوا أردوغان إلى الجزائر، وكذلك الاتّفاقيات التي عُقدت بين البلدين في هذا الإطار إلاّ أنّ الأزمة الليبية كانت حاضرة بقوة في هذه الزيارة.

وبعد أقل من أسبوع من زيارة أردوغان إلى الجزائر، وتحديدًا يوم 23 نوفمبر طار رئيس الوزراء الجزائري عبد المالك سلال إلى الدّوحة في زيارة تكتسي أهمية كبيرة باعتبار أن الوضع الأمني في ليبيا يشغل بال الطّرفين. ولقطر علاقات متميزة مع المؤتمر الوطني في ليبيا الذي أصبح المؤسسة الشّرعية الوحيدة بعد أن تمّ حل برلمان طبرق من قبل المحكمة الدّستورية قبل أيام. كما أنّ لها تأثيرا واضحا على الجماعات المسلحة التي تسيطر على الوضع في طرابلس.

إنّ من شأن استمالة قطر للمبادرة الجزائرية أن يقود الأطراف المتصارعة في ليبيا للجلوس إلى طاولة الحوار، والتّوصل إلى تفاهمات تجنّب البلاد مزيدا من الاقتتال وتجنّبها كذلك خطر التمزيق. فالجنرال المتقاعد حليفة حفتر مدعومًا من النّظام المصري وبعض الدّول الخليجية يسعى جاهدًا للاستيلاء على بنغازي وبالتالي على مناطق الشرق الليبي، وربما تقسيم ليبيا بعد ذلك، وهذا ما لا تقبله الجزائر بأي حال من الأحوال.

فخطوة من هذا القبيل من شأنها أن تكون سابقة خطيرة في منطقة شمال أفريقيا قد تشجّع أطرافا أخرى في المنطقة، وخصوصا في الجزائر على المطالبة بتشكيل كيانات سياسية مستقلة خاصة بها. كما أنّ بقاء التّوتر في ليبيا سوف يجعلها ساحة للعناصر الرّاديكالية المتشددة التي لا تقبل أي شكل من أشكال العمليات السّياسية على شاكلة "القاعدة" و"الدّولة الإسلامية" وغيرهما من التنظيمات التي ظهرت في العراق والشام. ثم إن الوضع المتدهور في ليبيا سوف يجعل من هذا البلد عبارة عن سوق للسّلاح في المنطقة، ومنه تتسرب هذه الأسلحة إلى الجزائر وتونس المجاورتين وتصبح مصدر تهديد خطير للأمن والاستقرار هناك.

الدّور التّركي مهم للغاية بالتّنسيق مع كل من الجزائر وقطر لإيجاد صيغة لبدء حوار بين الأطراف المتصارعة في ليبيا، ويبدو أنّ هذه الإمكانية أصبحت أقرب إلى التحقيق خصوصا بعد الهزائم التي منيت بها ما تسمى بـ"عمليّة الكرامة" التي يقودها الجنرال المتقاعد خليفة حفتر في شرق ليبيا، وبعد حل مجلس نواب طبرق واعتباره غير شرعيّ، ورفض الجزائر لما بدر من الرّئيس المصري عبد الفتاح السيسي أثناء زيارته للجزائر بدعوته اعتبار "الإخوان المسلمين" جماعة إرهابية وعدم التعامل معهم إلا بطرق أمنية، وجاء الرّد الجزائري بأن الإخوان المسلمين في الجزائر مكوّن أساسي من مكونات الحكم، ومكوّن مهم من مكونات المجتمع الجزائري، ولا يمكن تجاهل دورهم في الاستقرار بالبلاد.

كما أنّ النظام المصري في الوقت الحالي يعاني من تناقضات شديدة ولم يعد قادرًا على تلبية احتياجات المواطن المصري، وأخفق في توفير الأمن الذي وعد به، وتحولت القبضة الحديدية التي نفّذها ضد معارضيه إلى وبال عليه. فحتى الجماعات السلفية التي أيدته في انقلابه تهدّد اليوم بالتّصعيد لتلتقي بذلك مع الحركات الثورية، ومع أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي في ضرورة إحداث تغيير حقيقي في البلاد واستعادة بعض مكاسب الحرية التي وجدت بعض ثورة يناير 2011م. فالوضع الداخلي المتوتر في مصر لا يسمح للنظام المصري بأن يواصل دعمه لحفتر الذي وجد نفسه في مأزق قانوني بحل برلمان طبرق الموالي له، ومأزق على الأرض مع تتالي هزائمه واندحار القوات التابعة له.

          وإذا أضفنا إلى كل هذا وصول التّجربة الدّيمقراطية في تونس إلى بر الأمان، ونجاح المرحلة الانتقالية فيها بحيث أصبحت تمثل نموذجا لمخرج أمثل من الأزمات التي تعاني منها الدول التي شهدت ثورات عربية، تصبح القناعة أكبر بأنّ التقاتل والتناحر لا يجلب إلا مزيدًا من الدّمار والخراب ومزيدا من المعاناة لأبناء الشعب اللّيبي، والحل الوحيد هو الحوار والمصالحة، والرجوع إلى مواصلة العملية السياسية بعيدا عن أزيز الرّصاص وأصوات المدافع.  

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس