إبراهيم كالن - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

وفقا لموقع " إثنولوج" المعني بإحصاء لغات العالم، هناك أكثر من 7.000 لغة حية، يتحدث بعضها مئات الملايين من الناس، وبعضها تتحدث به مجتمعات أصغر بكثير. وتمثل ثلاث وعشرون لغة أكثر من نصف سكان العالم، ولكل لغة من هذه اللغات نفس الهدف والوظيفة: توصيل الأفكار والمعاني والمشاعر بين البشر. وفي عالم اللغات بالغ التنوع، نعبر عن أفكارنا ومشاعرنا ونقول شيئا لأنفسنا وللبشر الآخرين. نفصح عن معنى أعمالنا  بالكلمات والجمل، ومن حيث المبدأ نحل خلافاتنا من خلال التواصل العقلاني. ولكن هل الكلام باللغة نفسها يسمح لنا دائما بالتعبير عن أفكارنا تعبيرا صحيحا؟

هناك حالات لا يُجدي فيها التحدث بنفس اللغة في التغلب على الصدامات والصراعات. وهذا هو المكان الذي نحتاج فيه إلى ما هو أكثر من القدرة اللغوية للوصول إلى عقول غيرنا من البشر وقلوبهم. ومن هذا المكان يلج مولانا جلال الدين الرومي حين يقول: "حري بنا أن تتكلم نفس لغة القلب عن الكلام بلغة نفس اللسان نفسه". تكون الأفكارُ البناءةُ التي تعبر عنها اللغة معقولةً عندما تصل لا إلى العقول فحسب، ولكن إلى قلوب محاورينا أيضا، إذ أن لها تأثير في نفوسنا وعقولنا عندما يتم التواصل من خلال لغة القلب.

لا يمكن سماع الكلمات التي تصدر من لغة القلب إلا عندما تأتي من قلب آخر. وهذا يعني أن علينا أن ندرب قلوبنا على الحديث إلى القلوب الأخرى. ويعتقد الرومي أن جميع البشر يتمتعون بالقدرة على الكلام بهذه اللغة. والحق أن التراث الفكري الإسلامي يؤكد أن القلب هو جهاز معرفي مهم مثل العقل واللب. ليس القلب مجرد وعاء للمشاعر والعواطف فحسب، بل هو أيضا مستودع الأفكار والخواطر والمعاني. ومن أفدح أخطاء الفلسفة المعاصرة تحويل قلب الإنسان من مركز المعرفة الواعية المسببة للسعادة، إلى ملكة عاطفية ونفسية بحتة.

العقل والقلب ليسا عدوين لبعضهما، بل على العكس فهما يشكلان النفس البشرية، وبدون أحدهما يصبح الإنسان فظا غير مكتمل. والعقل في حد ذاته لا يمكن أن ينقل أفكارنا ومشاعرنا؛ لأننا أكثر من أن نكون مجرد "آلات التفكير"، فنحن أيضا بشر نتعاطف مع الآخرين ونصلي ونبكي ونتمتع بالأشياء الجميلة ونفكر في معنى وجودنا في هذا العالم الزائل.

والقلب في حد ذاته لن يكون كافيا للتعبير عن أفكارنا وآرائنا تعبيرا واضحا ومنطقيا، فالقلب والعقل معا يمنحاننا الذات المتكاملة، الذات التي ترى العالم من خلال عيون المبادئ العقلانية والقيم السامية دفعة واحدة. بعقولنا ولغتنا نخلق المعنى، ولكننا أيضا نصل إلى المعنى المترسخ في الطبيعة الجوهرية للأشياء، ونتناول الأمور بأطر عقلانية لكي نفهمها. ولكن من الصحيح أيضا أن الأمور تقدم نفسها لنا بوصفها بِنَى ذات معنى ودلالة، ونبدع بقدر ما نميط اللثام عن المعنى. وهذا هو المكان الذي يغذي فيه العقل والقلب بعضهما بعضا، ويمنحاننا فهما شاملا للواقع.

وبالعودة إلى الرومي يبرز السؤال: لماذا يفضل الرومي الحديث بلغة القلب عن الحديث بلغة اللسان؟ السبب بسيط وعميق، فالأشخاص الذين ينتمون إلى نفس العالم اللغوي قد تكون لديهم لديهم أفكار مختلفة، ولكن لغة القلب تتغلب على الخلافات التافهة وترفع فهم البشر إلى مستوى أعلى من الإدراك. وهذا شبيه بالصعود إلى أعلى الجبل حيث نرى الوادي كله وليس مجرد جزء منه. وكلما ارتقينا إلى أعلى، كان فهمنا أعمق. وهذا هو الفهم الأعمق، وليس مجرد كتل من المعلومات التي لا فائدة منها، الفهم الذي يقودنا إلى النضج الفكري والإيمان والفضيلة والرحمة. وهذه القيم والمبادئ هي التي تبرز أفضل ما في إنسانيتنا.

وهذا يفسر أيضا عالمية دعوة الرومي، على الرغم من أنه كتب معظم شعره الخالد بلغة معينة في وقت ومكان معينين. يسعى الرومي، على غرار جميع الحكماء، إلى الوصول إلى معنى عالمي ودائم للأشياء تتجاوز عباراته الخاصة، فهو يبحث عن معنى أكثر من بحثه عن شكل من غير إهمال هذا الأخير. وأخيرا فإن الرومي شاعر قادر على التعبير عن المعاني الأكثر عمقا  بشعر جميل، وبقصص تسلب العقول. لقد رسخ الرومي نفسه على المعنى؛ لأنه يعرف أن المعنى هو ما يبقى.

عن الكاتب

إبراهيم كالن

الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس