ترك برس

لم تكن الامبراطورية العثمانية مرحلةً عابرةً في التاريخ الإسلامي، ولكنها كانت من عواميد الحضارة الإسلامية بما فيها من علومٍ وثقافةٍ وفنون. ولا شك أن إسطنبول استحقت لقب عاصمة إحدى أكبر الامبراطوريات في تاريخ العالم على الإطلاق، فقد كانت منبعًا لكل ما بإمكانه أن يُثريَ الحضارةً بل وأن يحافظ عليها ويدعم أسس قوتها.

فُتحت إسطنبول سنة 1453 على يد السلطان العثماني الشاب، محمد الفاتح، والذي سمّي بذلك لقيامه بفتحها ممّا ساهم في توسعة الدولة العثمانية والإسلامية على حد سواء.

ولم يكن النفعُ من فتح إسطنبول عائدًا على الدولة فحسب، وإنما كان عائدًا على إسطنبول نفسها أيضًا. فقد استطاع سكان الدولة العثمانية تحويل القسطنطينية إلى مدينةٍ يعمُّها جوٌّ من الإبداع في مختلف المجالات وعلى أيدي أشخاصٍ مختلفين في الجنسيات والأعراق والخلفيات الثقافية.

أنجبت إسطنبول ملايين المبدعين والعباقرة، في مجالاتٍ عديدة ومتنوعة، ولم تخلُ بالطبع، من الفن والهندسة المعمارية، وتعد الجوامع المنتشرة في أنحائها دليلًا بارزًا عليها. فحتى بعد مرور ما يقارب القرن على انتهاء الدولة العثمانية وتحويل القسطنطينية إلى إسطنبول، لا زالت تلك الجوامع شاهدةً على الفن الإسلامي الذي انتعش أيام الدولة العثمانية، ولا زال الأذان فيها يُرفع حتى يومنا هذا خمس مراتٍ كل يوم.

فنٌّ استثنائي

في إسطنبول، لا يقتصر زوار الجوامع على المصلّين، وإنما يزورها السياحُ القادمون من مختلف دول العالم من أجل التعرف على تاريخ الحضارة العثمانية والتركية والاستمتاع بالفنّ القابع بين زوايا الجامع وعلى حيطانه وأسقفه وسجّاده، فهندسة الجوامع والزخرفة المنتشرة فيها، تمثل فنًّا متفردًّا تصعب رؤيته في أي مكانٍ آخر.

وكما هو معروفٌ عن الفن الإسلامي، تجنبه الرسوم التي تصور الإنسان، فقد ابتكر المسلمون نوعًا استثنائيًّا وفريدًا من الفنون، والذي قد أصبح خاصًّا ومميِّزًا لهم، يشمل التصاميم الهندسية والتصاميم القائمة على الأشكال الطبيعية كالنباتات والزهور، والاقتباسات من القرآن الكريم باستخدام الخطوط العربية الجميلة.

ولقد أضفت هذه الديكورات لمسةً من الجمال مُضافًا على جمال السلام والهدوء والنقاء الذي يسود الجوامع بطبيعتها كمكانٍ دينيٍّ مقدس. إن الجوامع تصنع جوًّا من الاستمتاع والسعادة لزوّارها، فهم يشعرون وكأنما دخلوا لعالمٍ آخر مختلفٍ ومميز، عالمٍ حيث الجمال والإبداع والفن، والقداسة الدينية في مكانٍ واحد.

أبواب الجوامع

غالبًا ما تكون أبواب الجوامع قديمةً جدًا ومصنوعة من الخشب مع لوحاتٍ منحوتةٍ عليها. ولكن قد لا يتمكن الزائر من مشاهدة ذلك لدى دخوله الجامع، ففي الغالب تتمُّ تغطية تلك الأبواب بأغطيةٍ من الجلد من أجل حمايتها والمحافظة عليها خاصةً في فصل الشتاء.

بلاطُ الجوامع

ربما يكون من السمات الأكثر تمييزًا للفن الإسلامي، البلاط المستخدم لتزيين التصميم الداخلي للجوامع. وغالبًا ما تستخدم الأزهار في هذا البلاط، من خلال رسوماتٍ تحوي تصاميم مكررة من أنماط الأزهار والأوراق في ألوانٍ مميزة، بخاصةٍ اللون الأزرق الغامق والأحمر.

وبالنظر إلى هذا البلاط الذي استخدمت أنماطُ الأزهار في تزيينه، يُعتقد أن بعضًا من فناني أوروبا مثل ويليام موريس، قد تأثروا بالتصاميم العثمانية. ومن الواضح أن التصميم العثماني قد تأثر بدوره بالتصميم النباتي والزهري الصيني الذي دخل هذه البقعة من أوروبا في القرن السادس عشر.

أماكن الوضوء

وبما أن الوضوء هو شرطٌ أساسيٌّ لأداء الصلوات في الإسلام، فقد اعتنى العثمانيون بأماكن الوضوء واهتمّوا بأدق تفاصيلها، وتحتوي البعضُ منها كذلك على زخرفاتٍ وتزيين، كما تم بناؤها بأسلوبٍ مميزٍ وجذاب.

القباب

تعد القباب سمةً مميزة للجوامع في كل أنحاء العالم، وقد تم تصميمها وتزيينها داخليًا في جوامع إسطنبول، بشكلٍ يبعث الهدوء في نفس الناظر إليها، من خلال نوافذ الزجاج الملون، وثرائها بالألوان وتنوع الأنماط والزخارف عليها.

من أبرز جوامع إسطنبول

جامع السلطان أحمد - أو كما اصطلح على تسميته بالجامع الأزرق. يعود إلى القرن السابع عشر ويقع في منطقة السلطان أحمد في حي الفاتح، مقابل أيا صوفيا. يزين جدرانه الداخلية البلاط الأزرقُ الجميل، ويتميز عن الجوامع الأخرى بعدد مآذنه الصغيرة الستة. تم بناؤه في الفترة 1609- 1616، خلال حكم السلطان أحمد الأول، ويضم كالعديد من المساجد الأخرى قبر السلطان المؤسس ومدرسةً وتكية. ويعتبر هذا الجامع آخر جامعٍ عظيم بُني في العصر الكلاسيكي العثماني. ويضم الجامع إلى جانب العمارة الإسلامية التقليدية، بعضًا من عناصر الفن البيزنطي وذلك بالنظر إلى آيا صوفيا التي تقع مقابله.

جامع السليمانية - ثاني أكبر مسجدٍ في إسطنبول، وواحدٌ من المعالم السياحية الأكثر شهرة فيها. بُنِيَ في القرن السادس عشر من قبل المهندس المعماري العثماني الشهير معمار سنان للسلطان سليمان. يجمع الجامع المآذن الطويلة مع القباب الكبيرة المحاطة بقباب صغيرة، والمستوحاة من البناء البيزنطي لآيا صوفيا. وقد تم العثور على قبر السلطان سليمان وزوجته حُرّم والمهندس معمار سنان في محيط الجامع.

جامع الفاتح - بُنِيَ في الفترة 1462- 1470 من قبل السلطان محمد الفاتح، فاتح القسطنطينية المدفون في فناء الجامع الذي سُمّي باسمه، وقام بتصميمه المهندس المعماري عاتك سنان. كان إنشاء الجامع يمثل تحديًا كبيرًا للسلطان المؤسس وللمهندس المعماري، فهو تقريبًا أول جامعٍ كبيرٍ يُبنى في القسطنطينية بعد فتحها، حيث كانت الأنظارُ كلها موجهةً إلى آيا صوفيا، البناء الديني الأبرز في ذلك الحين. شمل الجامع في ذلك الوقت، مشفى والعديد من الحمامات، بالإضافة إلى المطابخ والمدرسة التي وصل عدد طلابها إلى الألف طالب. تمت المحافظة على المدرسة بالرغم من عمليات الترميم العديدة التي تعرض لها الجامع بسبب الزلازل، ويعود معظمُ البناء الحالي إلى الترميم الذي قام به السلطان مصطفى الثالث سنة 1771.

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!