أسامة السيد عمر - خاص ترك برس

قبل أن تظهر الدعوات للقومية العربية وباقي القوميات وتتأجج في نفوس أبنائها من رعايا الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، كانت الرابطة الإسلامية هي التي تجمع بين جميع شعوب الدولة العثمانية على اختلاف أجناسهم، فدولة الخلافة هي الجامعة لكل من يحيى على أراضيها، ويشهد بذلك تنوع منابت أصحاب المناصب العليا في الدولة من صدور عظام ووزراء وولاة وقادة عسكريين فكان منهم العرب والترك واليونانيون والبوسنيون والألبان والكروات والصرب والكرج والأرمن وغيرهم.

كانت الأمة في ذلك العهد جسدا واحدا لا يطغى عضو على آخر، فطلائع الجيوش تتجمع من مختلف المدن والولايات، وعندما كانت تأتي البشرى بأخبار انتصارات العثمانيين في أوروبا، كانت الأفراح تقام في اسطنبول ودمشق وحلب والقاهرة وغيرها من حواضر الإسلام.

وبسبب هذه الرابطة التي كان تستحكم العلاقة بين الدولة والرعية، أطلق السكان العرب على القوات العثمانية المرابطة في بلادهم اسم الحامية العثمانية، ولم يسموها جيش الاحتلال العثماني، لأن الدين كان طاغيا على الدولة وكان المفتي مقربا من الخليفة ويحضر اجتماعات وزرائه ولا يعترض على فتواه أحد، حتى إن مراسم تقليد السلطان الجديد كانت تتم في موكب رسمي يتجه إلى مسجد أبي أيوب الأنصاري.

كما إن سوق الجهاد كان في حركة دائبة في عهد العثمانيين دونما توقف، فقد بدأ ضد الصليبين على حدود الدولة البيزنطية منذ عهد آرطغرل، وولده المؤسس عثمان الأول، ثم تكللت الجهود بفتح بورصة على يد أورخان بن عثمان، ثم فتوحات البلقان على يد مراد الأول حتى استشهاده على أرض المعركة في كوسوفا، ثم بايزيد الصاعقة الذي حاصر القسطنطينية ولم يرفع عنها الحصار حتى وافق إمبراطور القسطنطينية على إقامة حي للمسلمين وبناء مسجد وتعيين قاض مسلم فيها، ثم كان فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح والذي كان نقطة تحول في تاريخ الدولة ككل.

وفي عهد السلطان سليمان القانوني، دقت الفتوحات أبواب بلجراد ورودس وبودابست ووصلت القوات العثمانية إلى فيينا، وهذا إنجاز عسكري لم تبلغه أي دولة إسلامية على مدار التاريخ.

وحين تحطم أسطول المماليك في معركة ديو البحرية على يد البرتغاليين، قام السلطان بايزيد الثاني بمد المماليك بالمعدات اللازمة لبناء أسطول جديد للتصدي للبرتغال التي كانت تسعى لمحاصرة الحجاز والخليج العربي والبحر الأحمر من كافة المنافذ، وعندما لم تتكلل محاولات المماليك لصد الاعتداءات بالنجاح، تدخلت الدولة العثمانية في عهد السلطان سليم الأول وأوقفت هذا الزحف الذي كان يستهدف الوصول لجدة والحرمين والمسجد الأقصى.

وفي شمال أفريقية، تصدى العثمانيون لمحاولات الإسبان والبرتغال وفرسان القديس يوحنا المتكررة للسيطرة على مدن الشمال الإفريقي وضمها لحكمهم، فحافظوا على الشمال الإفريقي كاملا، وانهزمت العديد من الحملات الصليبية على سواحل المدن الإفريقية.

وعندما سقطت غرناطة آخر قلعة من قلاع المسلمين في الأندلس، إستغاث الناس بالدولة العثمانية، فاستطاع كمال ريس وبري ريس والأخوان بربروسا وبتوجيه من السلاطين سليم الأول وسليمان إنقاذ الآلاف من المسلمين واليهود من الاضطهاد الإسباني.

كما تنبه السلطان سليم الأول مبكرا لمحاولات الصفويين التغلغل في الدولة العثمانية ونشر التشيع فيها، فتوجه لفارس والتقى مع جيش الصفويين في وادي جالديران في العام 920هـ/ 1514م في معركة رهيبة انهزم فيها الصفويون، وسقطت عاصمتهم تبريز، وتوقف على إثرها المد الشيعي في الأناضول، وتم حصره في فارس.

كما منع السلطان سليم الأول والسلطان سليمان القانوني اليهود من الاستقرار في سيناء لأنها تضم الوادي المقدس طوى ولم يستطع اليهود الوصول لسيناء إلا بعد دخول الإنجليز لمصر عام 1882م.

وعلى طريق الحجيج، تم حفر الآبار وشيدت المخافر، وكان يتم تسيير المحمل الشريف كل عام في موكب مهيب يحضره السلطان نفسه، ويوكل به أحد وزرائه.

ولجمع المسلمين تحت راية واحد وموقف موحد بعد التشرذم الذي أصاب المسلمين في نهاية عهد الدولة العثمانية، قام السلطان عبد الحميد الثاني بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية للم شمل المسلمين على اختلاف لغاتهم ومشاربهم، ولكن هذه الفكرة لم يكتب لها النجاح لاعتراض المتربصين بالدولة عليها.

كما قام السلطان عبد الحميد الثاني بإنشاء السكة الحديدية والتي تصل بين دمشق والمدينة المنورة، وعندما دعا السلطان الأمة لدعم مشروع السكة جاءت التبرعات من رعايا الدولة في شتى الولايات، و تحولت حملة التبرع إلى مشروع مثيل للوحدة الإسلامية والولاء للخلافة، فحج الناس للمرة الأولى باستخدام السكة الحديدية والتي وفرت للناس الأمن والسرعة.

وأما موقفه من محاولات اليهود للاستيطان في فلسطين فقد خلده التاريخ، فرفض أن يتخلى عنها رغم الملايين التي بذلت لذلك، وجعل بيت المقدس تابعة للباب العالي مباشرة تحت إشرافه بعد أن ظلت زمنا تابعة لباشا دمشق.

وعند الحديث عن الانتصارات، لا نغفل الهزائم التي منيت بها الدولة في أكثر من موقعة لأسباب شتى، ولكن هذا لا يقلل من شأن الإنجازات العظيمة التي خلفتها، والانتصارات الكثيرة التي حققتها.

وفي نهاية عهد الدولة العثمانية حين حاصرتها الأزمات من الداخل والمؤامرات العالمية من الخارج تسلط حزب الاتحاد والترقي على الحكم ورفع شعار الحرية والمؤاخاة في بداية القرن العشرين وعزل السلطان عبدالحميد الثاني ونفاه وقمع المعارضين واستبد بالحكم ومن ثم زج بالدولة في أتون الحرب العالمية الأولى فدخلت البلاد في أزمات كارثية، وتقاسمت الدول الكبرى التركة وبدأ عهد جديد من الاستعمار، فمن هنا ليس من المقبول أن نتغافل عن إنجازات الدولة لقرون ثم نحكم عليها بأفعال بعض المحسوبين عليها في عقد من الزمان.

ختاما، هذه بعض مآثر الدولة العثمانية وفضائلها وهي أكثر من أن تعد وتحصى، فلا ينكر فضل العثمانيين على العرب والمسلمين ويفتري عليهم إلا جاهل بالتاريخ يصدق كل ما يسمع دون تثبت ولا برهان، أو مغرد مأجور يسعى لنفوذ في بلاط سلطان، أو مدعٍ للعلم صاحب عمامة متملق لولي نعمته يتطاول على معلميه بكل بهتان، أو متصهين حاقد باع أمته لأجل كرسي فان، وأعلنها لقومه مدوية فقال ما أريكم إلا ما أرى فليس لكم قرار ولا شان، فيا ليت شعري هل لتغريدات هؤلاء أو كلامهم معنىً في وزن البيان ! 

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس