جمال الهواري - خاص ترك برس

الربيع العربي وثورات الشعوب المقهورة والذي كانت بداياته من تونس يوم الجمعة 17 ديسمبر/ كانون أول عام 2010، حين قام الشاب "محمد البوعزيزي" بإضرام النار في نفسه أمام مقر ولاية "سيدي بوزيد" احتجاجاً على محاولاته دون جدوي تقديم شكوى ضد شرطية قامت بمصادرة عربة كان يبيع عليها الخضر والفواكه لكسب رزقه وصفعته على الملأ وقالت له بالفرنسية: "Dégage" أي ارحل، فأصبحت هذه الكلمة شعار الثورة التي أطاحت بنظام بن علي وكذلك شعار الثورات العربية المتلاحقة، لتندلع على إثر تلك الحادثة احتجاجات واسعة عمت أرجاء تونس وأسقطت نظام بن علي، ثم انتقلت الشرارة بعدها إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا وخرجت جموع الشعوب الغاضبة والباحثة عن الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

ثم كان ما كان من تآمر الشرق والغرب ضد الثورات العربية وبذلت الجهود وأنفقت عشرات بل مئات المليارات من الدولارات وأريقت الدماء في محاولة يائسة لإعادة الشعوب إلى مربع الطاعة، وتثبيت وتبديل وجوه الحكام للإبقاء على التبعية للغرب وتهميش دور الشعوب في ما بات يعرف بالثورة المضادة، وهي وإن كانت قد حققت نجاحاً يراه البعض ساحقاً وأراه مؤقتاً وإلى حين ولا بد للشعوب أن تنتصر في النهاية مهما طال الوقت، هذا ما أثبته التاريخ ويعضده العقل والمنطق فقد انكسر حاجز الخوف وذهب إلى غير رجعة وارتفع الوعي وظهرت الحقائق والتحالفات ضد رغبات الشعوب بلا أقنعة أو رتوش، وكلما زاد العنف والقمع والقهر فتلك أهم أسباب تقصير المدة الزمنية لعودة الثورات الشعبية إلى مسارها السابق ومن ثَمَ نجاحها فقد تعلمت من أخطائها لا ريب في هذا، فالمزيد من الكبت يقرب موعد الانفجار ولا يبعده.

لكن كما أخرج الربيع العربي أجمل ما في الشعوب العربية الثائرة من أفعال وصفات فقد أخرج أيضاً أسوء من فينا من نهازي الفرص والوصوليين وتجار الثورات وهذا الوصف تتقاسمه مناصفةً الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب والكثير من النخب والفصائل التي أفرزتها ثورات الربيع العربي في مختلف مراحلها وتصدرت المشهد الثوري رويداً رويداً وبالتزامن مع ازدياد شراسة وردة فعل أضلاع الثورات المضادة "أنظمة ونخب وأذرع وفصائل في شتى المجالات والتحركات".

لقد ابتلي الربيع العربي وطحنت شعوبه التي كانت وما زالت وقود ثوراته والدافع الأكبر وربما الوحيد لفاتورته من أموال ومقدرات ودماء ووجدت تلك الشعوب نفسها محشورة بين مطرقة الثورة المضادة وسندان نخب وفصائل سياسية وإعلامية واقتصادية وحتى حقوقية متدثرة بثوب الثائر ومرتدية قناع المناضل وراح كلاً من الفريقين يستحوذ على ما تطوله يديه من مقدرات وثروات الشعوب مستغلين الوضع الراهن لأقصى درجة، متمنين استمراريته على ما هو عليه.

الأنظمة لا يعنيها أو يهمها استمرارية الوضع الكارثي الحالي من عدمه فكلما ازدادت السيولة وعدم الاستقرار فهذا كفيل وضامن ليجرف في طريقه أي متطلبات أو مسؤوليات سياسية واقتصادية واجتماعية، ويبعث برسالة للشعوب ها هي النتيجة لو فكرتم في الثورة مرة أخرى، فالوضع غير مستقر ولا بد من إرجاء مطالب الحقوق والحريات العامة وحقوق الإنسان حتى يستقر الأمر ونفرض سيطرتنا وعليك أيها الكفيل "غربياً كنت أو شرقياً" أن تمدنا بالأسلحة والأموال ومنحنا الغطاء السياسي اللازم حتى نتمكن من استمرارية وفرض النظام الحاكم الذي يخدم مصالحك وأجندتك واستراتيجيتك ويرسخ نفوذك ويحفظ حقوقك ونصيبك من الثروات والمقدرات التي ستضمن لنا أن نفي بما ساعدتنا وأمددتنا به من قروض وصفقات تسليح وخلافه، فلو رحلنا وتمت إزاحتنا فقد ضاع استثمارك وذهبت أموالك بلا رجعة، فالقاعدة التاريخية تقول الثورة تَجُبْ أي تقطع ما قبلها.

أما المعارضة أو من تقوم بتمثيل أنها معارضة وتتحدث بأسماء الشعوب وتتصدر المشهد وتقدم نفسها على أنها الطرف الآخر للمعادلة المقابل للأنظمة، فمن مصلحتها استمرارية الوضع ومراوحته في مكانه، فلو أقصيت تلك الأنظمة وعادت الكلمة الفصل للشعوب الثائرة فسينتهي دورها حتماً فلقد انكشفت كل الأقنعة أو كادت وظهر بما لا يقبل الشك أن الكثيرين من متصدري صفوف المشهد السياسي من المعارضة ما هم إلا جامعي مكاسب وثروات عبر تجارة واستثمار المقاومة والمتاجرة بالثورات، يحدث هذا بينما الثوار الحقيقيين إما تحت الثرى أو منفيين أو مغيبين خلف قضبان المعتقلات أو تم استبعادهم وتهميشهم والدفع بهم لخلفية المشهد؛ فالثائر الحقيقي لا يعرف أو يتقن فنون المساومة على المباديء والحقوق ولا يستسيغ منطقية الحلول الوسط ويعلم علم اليقين أن الحل الوسط دائماً ما يكون الرابح فيه من يمتلك قوة المال والسلاح بشتى أنواعه "إعلامي واقتصادي وعسكري" والظهير السياسي "داخلياً وخارجياً" ومستنداً على حليف يمده بأسباب ووسائل الاستمرارية في النضال والوصول لنهاية الطريق.

لكن لا يمكننا إغفال حقيقة أن هناك البعض من النخب انحازت لأحلام الشعوب وتبذل قصارى جهدها لإيصال صوتها والتعبير عن أمنياتها وتطلعاتها، مقاومةً كل الإغراءات متحملة شظف الحياة ووحشة المنفى حتى لا تنحرف عن الطريق وتلحق بركب التجار وعاقدي الصفقات على أوراق الربيع العربي وموقعين بحبر مداده من دماء الثوار والشعوب وتلك هي أسباب استبعادهم وتهميشهم.

الخلاصة 

التاريخ يعيد ويكرر نفسه وتبقى الحقيقة الخالدة واليقينية والثابتة أن الشعوب باقية والأنظمة تتبدل وتتغير، ويبقى الشعب هو الحكم والطرف الأقوى في المعادلة مهما حاولت كل أو معظم الأطراف تحييده، الثورات تخلق قادتها وتفرز نخبها وتفرض سيطرتها في النهاية وستذهب إلى الصفحات السوداء من كتب التاريخ كل تلك الأنظمة الفاسدة والنخب المستأجرة، فالتاريخ كما الشعوب لا يرحم المتآمرين والخونة والمتخاذلين، قد يكتب المنتصرين التاريخ لكن الشعوب هي من تقرر صدقه من كذبه، فما لا تتضمنه ذاكرة التاريخ تختزنه عقول الشعوب ويتوارثه الأبناء والأحفاد، فكم من أنظمة ونخب مجدتها صفحات كتب التاريخ ولعنتها قلوب وضمائر الشعوب قبل ألسنتها.

عن الكاتب

جمال الهواري

صحفي و ناشط سياسي مصري، عضو منظمة العفو الدولية.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس