محمد زاهد جول - القدس العربي

في الأيام الأخيرة من عام 2017 قامت الرئاسة التركية بمجموعة زيارات دولية كبيرة ومهمة من الناحية الاستراتيجية، فرئيس الجمهورية التركية أردوغان قام بزيارة لثلاث دول إفريقية هي، السودان وتشاد وتونس.

بينما قام رئيس الحكومة التركية بن علي يلدرم بزيارة رسمية مهمة واستراتيجية للمملكة العربية السعودية، وهذا التزامن بين الزيارتين الإفريقية وللسعودية هو مدخل مهم لفهم السياسة التركية التي تقوم على التوازن في علاقاتها الدولية، التي وصفها رئيس الحكومة التركية يلدرم في أيامه الأولى قبل عامين، عند استلام مهامه رئيسا للحكومة التركية الأخيرة في النظام السياسي البرلماني، بأنها تقوم على زيادة عدد الدول الصديقة.

أما زيارة الرئيس أردوغان إلى السودان فقد كانت من أكثر الزيارات التي تناولتها الصحافة وأقلام الإعلاميين والمحللين السياسيين، وهي بلا شك مهمة جداً لأنها تواصل بناء العلاقات التركية العربية الإفريقية على أسس متينة، فزيارات أردوغان للدول العربية والإفريقية تعد بالعشرات منذ استلام حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا عام 2002، وقد وصل عددها للدول الإفريقية وحدها مع الزياة الأخيرة للسودان، 28 زيارة، وهذا رقم كبير بالنظر إلى زيارات كبار المسؤولين والرؤساء بين الدول، وهي أيضاً الزيارة الأولى لرئيس تركي منذ استقلال السودان عام 1956، وقد كانت زيارة أردوغان الأولى لإفريقيا عام 2004، وهو في منصب رئيس الوزراء، وكانت لمصر في عهد الرئيس حسني مبارك كما زار عددا آخر من دول القارة الإفريقية منذ ذلك التاريخ، ليختتم زياراته للقارة الإفريقية بجولته الحالية للسودان وتشاد وتونس.

وهكذا لم يمر عام إلا وقام فيها بزيارة إفريقيا، ولذا لا غرابة أن يقوم بزيارة السودان، وليس بالضرورة أن تحمل هذه الزيارة تفسيرات خاطئة ومشبوهة، فالرؤية التركية لعلاقاتها المميزة مع القارة الإفريقية ثابتة ومستقرة، بكل ما فيها من دوافع أخوية وعلاقات تاريخية وأفاق تعاون مشترك مع كافة الدول الإفريقية بدون استثناء، وبالأخص الدول التي ترحب بالتعاون الاستراتيجي مع تركيا، فتركيا تسعى لتوثيق العلاقات مع الدول الإفريقية على الصعيد السياسي والاقتصادي والسياحي والتصنيعي وغيرها، ورفع نسبة التبادل التجاري مع كل الدول الإفريقية هدف متواصل، وقد ارتفعت نسبة حجم الصادرات التركية بين عامي 2012 و2016 نحو 65 مليار دولار، وارتفع حجم التجارة معها إلى 93.5 مليار دولار، وهذه النسبة تقدر بنحو 200%، وهذا كله نتيجة رؤية استراتيجية لتركيا في علاقاتها مع إفريقيا أطلق عليها منذ أكثر من عشر سنوات «سياسة الانفتاح على القارة الإفريقية».

ولا شك أن الرغبات أو الاحلام العربية السابقة لاستثمار أراضي السودان في سد حاجة الدول العربية إلى الغذاء كانت كبيرة وكثيرة، ولكنها رغم تبنيها من مؤتمرات عربية كثيرة طوال العقود الماضية لم تؤت أكلها، فالأراضي الزراعية في السودان قادرة على أن تشكل سلة غذائية متكاملة لكل الوطن العربي وجيرانه، ولكن مشاريع الاستثمار الزراعية السابقة واجهت صعوبات وإخفاقات لأسباب داخلية وخارجية، فشركات الغذاء الدولية لا تسمح بإيجاد منافسين جدد على الساحة العربية، يعتمدون على أنفسهم، ولذلك فإن دعوة السودان للاستثمار الزراعي التركي، خطوة جريئة وضرورية لمحاولة تجاوز هذه الصعوبات والإعاقات الداخلية والخارجية، وتمثل تحديا للشركات والدولة التركية أيضاً، ولكن الشركات التركية لها خبرة طويلة وكبيرة في المجالات الزراعية أولاً، ولها خبرة كبيرة في التنافس الدولي على صعيد الاستثمارات الزراعية وصادراتها، ولذلك فإن عرض السودان على القطاع الخاص التركي مليون فدان لزراعة قطن وحبوب زيتية خطوة إيجابية، ولا بد أن تكون خطوة أولية، والتكامل التام بين السودان وتركيا بحاجة إلى مزيد من التعاون، وقد تم توقيع 22 اتفاقية تعاون بينهما، وخلال هذه الزيارة أعلن الرئيسان السوداني والتركي في الخرطوم، إنهما يسعيان لرفع حجم التبادل التجاري بين البلدين من 500 مليون إلى 10 مليارات دولار.

ما يميز هذه الزيارة مرافقة الرئيس التركي نحو مئتين من رجال الأعمال الأتراك من كافة التخصصات، ولكنها لم تكن زيارة مصلحة فقط، وإنما زيارة تجديد وتوثيق للعلاقات الأخوية مع الدول الإفريقية، وبالأخص التي كان لها تاريخ عريق أيام الدولة العثمانية، وفيها الكثير من الآثار التاريخية المشتركة، وبعض مدنها لعبت دورا تاريخياً في حركة النقل البحري مثل شبه جزيرة سواكن السودانية، و»سواكن» مدينة تقع شمال شرق السودان، على ساحل البحر الأحمر، وتبعد عن العاصمة الخرطوم حوالي 642 كيلومترا، وتضم منطقة أثرية تاريخية، حيث أن الدولة العثمانية كانت تتخذ من جزيرة «سواكن» مركزًا للبحرية، بهدف توفير أمن البحر الأحمر والحجاز والسودان، ضد الأخطار الخارجية، وقام الاستعمار البريطاني بتدميرها في الحروب السابقة، فإعمارها اليوم هو مطلب شعبي ورسمي سوداني، قابله ترحيب تركي رسمي وشعبي، ولا بد ان يجد ترحيبا عربيا وإفريقيا وإسلاميا أيضاً.

لقد وجدت هذه الزيارة التركية لإفريقيا ترحيبا شعبيا كبيرا، واستقبلها الإعلاميون الأفارقة بالتفاؤل، واعتبرها البعض بدايات جادة للنهضة الإفريقية بالنظر إلى التجربة النهضوية التركية الناجحة في العقدين الماضيين، فالمشاريع التركية مع الدول الافريقية أكثر استقلالية من غيرها من المشاريع الاقتصادية السابقة، سواء في القطاع الزراعي أو السياسي أو التصنيعي المدني أو العسكري أو غيره.

وفي هذا الصدد يمكن القول بأن الشريك التركي مع الدول الافريقية منفردة لا ينافس المشاريع الأخرى الإفريقية الداخلية، ولا المشاريع العربية معها أيضاً، وإنما من المؤكد أنه ينافس المشاريع الإسرائيلية والغربية بالدرجة الأولى، ولذلك ليس من مصلحة تركيا أن تفرض مشاريعها على الدول والشعوب الإفريقية عن طريق الضغوط، أو توقع الاتفاقيات مع الشركات الخاصة الشخصية والضيقة، بل مع الشركات الرسمية والأهلية، التي لها نجاحات محلية حقيقية وليست وهمية، فالشراكة التركية هي مع الشعوب عبر دولها ومؤسساتها الرسمية، وفي ظل هذا التعاون كان ضروريا أن يتم الاتفاق على تأسيس مجلس تعاون استراتيجي بين تركيا والسودان، ينبغي أن يكون نموذجا للنجاح التركي العربي والإفريقي، لإرضاء تطلعات الشعوب العربية والإفريقية والإسلامية في المستقبل.

كما أنه ليس من مصلحة تركيا أن توقع اتفاقيات مع إحدى الدول العربية أو الإفريقية ضد دولة أخرى، ولا صناعة أحلاف سياسية أو عسكرية ضد دول عربية أو إفريقية أو إسلامية، فالسياسة التركية تسعى لتوثيق التعاون بينها وبين الدول العربية والافريقية والاسلامية والصديقة، وما يؤكد ذلك زيارة رئيس الوزراء التركي يلدرم إلى السعودية التي أسفرت عن توافق تطلعات ورؤى الدولتين نحو جميع القضايا العربية والاسلامية والدولية، كما يربط تركيا بالمملكة العربية السعودية مجلس تعاون استراتيجي منذ عامين، أولاً على صعيد السعودية، وثانيا على صعيد مجلس التعاون الاستراتيجي التركي مع دول مجلس التعاون الخليجي. 

إن توقيع تركيا لعشرات الاتفاقيات التجارية مع الدول الإفريقية في هذه الزيارة وما قبلها وبعدها، إنما يهدف لتثبيت الرؤية التركية لعلاقاتها مع إفريقيا القائمة على أن نظرة تركيا للأفارقة وعلاقاتها مع الدول الإفريقية «ليست قائمة على الربح من جانب واحد»، كما قال الرئيس أردوغان، وإنما على رغبة تركية تتمثل في الإنتاج والتقدم والازدهار مع القارة السمراء، فتركيا كدولة تعي الإمكانات التي تمتلكها إفريقيا، وتقيم علاقات قوية مع تلك القارة في كافة المحافل، وتشكيل «مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى» بين تركيا والسودان، نموذج مهم جدا لإنجاح هذه المحاولة، فالهدف توثيق العلاقات بين تركيا وإفريقيا، وجعل الدول الإفريقية أقرب إلى الدول الاسلامية، بدل ان تكون رهينة أطماع إسرائيلية أو غيرها، فنحن أقرب لها وهي أقرب لنا من الآخرين.

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس