سعيد الحاج - الجزيرة نت

حظيت المظاهرات الاحتجاجية في إيران باهتمام محلي وإقليمي ودولي واسع، واعتُبرت حدثاً إقليمياً بامتياز بسبب الأدوار التي تلعبها طهران في المنطقة، ولربط الكثيرين بين الحدث الداخلي والسياسة الخارجية الإيرانية.

الموقف الرسمي
اندلعت الاحتجاجات في إيران في 28 ديسمبر/كانون الأول الفائت، واتسعت رقعتها الجغرافية بشكل ملحوظ، كما انتقلت شعاراتها من الاقتصادي البحت إلى السياسي، وخصوصاً المتعلق بالسياسة الخارجية والدور الإيراني في قضايا المنطقة.

وبدأ التواصل التركي مع الجانب الإيراني باكراً جداً، حيث اتصل وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو بنظيره الإيراني جواد ظريف في اليوم التالي للاحتجاجات، ثم تكررت الاتصالات بينهما على مدى الأيام اللاحقة.

وقد أصدرت وزارة الخارجية التركية بياناً مكتوباً في 2 يناير/كانون الثاني الجاري. واتصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره الإيراني حسن روحاني في اليوم التالي، كما استمرت التصريحات الرسمية -على لسان أكثر من سياسي تركي- بشأن الحدث الإيراني طوال الأيام الماضية.

تتلخص المقاربة التركية الرسمية لهذا الحدث في جارتها الإيرانية في عدة عناوين رئيسة، أهمها:
أولاً: اهتمام تركيا باستقرار إيران وسِلمها المجتمعي، وقلقها من سير الأحداث.
ثانياً: دعم حرية التظاهر السلمي، مع ضرورة البعد عن العنف والاستفزازات.
ثالثاً: رفض التدخل الخارجي بشدة، على اعتبار أن ما يحدث شأن إيراني داخلي.
رابعاً: استقرار إيران مهم لجيرانها، خصوصاً تركيا.
خامساً: تقييم إيجابي لتصريحات روحاني والتعامل الإيراني الرسمي عموماً مع الحدث.

ولم تقتصر التصريحات التركية على الحزب الحاكم والحكومة، حيث صرح أوزتورك يلماظ نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري -وهو أكبر أحزاب المعارضة- بأن أسباب المظاهرات ليست كلها داخلية، وإنما "من الواضح أن هناك تدخلاً خارجياً" في الحدث.

وتتفاخر الدولتان الإقليميتان الجارتان (تركيا وإيران) بأنهما تتقاسمان الحدود الأكثر استقراراً في المنطقة على مدى قرون طويلة. وقد أدارتا علاقاتهما البينية طوال القرون الفائتة بين مد وجزر وتنافس وتعاون، لكن على قاعدة احترام سيادة الطرف الآخر وتجنب المواجهة المباشرة معه.

ثمة أسباب وعوامل واضحة تساهم في صياغة الموقف التركي من المظاهرات الاحتجاجية، أولها الحرص على استقرار دولة جارة كبيرة ومؤثرة وذات علاقات طيبة مؤخراً مع أنقرة مثل إيران.

ويبدو ذلك الموقف متناسقاً -إلى درجة بعيدة- مع المواقف التركية من الثورات العربية في 2010 و2011، حيث دعت في بداياتها إلى التجاوب مع المطالب الشعبية واحتواء الغضب المجتمعي، لمنع تدهور الأحداث والتدخلات الخارجية.

ولعل ذلك مرتبط أيضاً بفلسفة حزب العدالة والتنمية الذي بنى تجربته على القوة الناعمة، والتكامل مع الدول الجارة والصديقة والتعاون الاقتصادي معها، مما يتطلب هدوءاً واستقراراً في المنطقة، كما يتناسب ذلك -بطبيعة الحال- مع حداثة المظاهرات وعدم اتضاح مسار الأحداث.

لكن المسوّغ الرئيسي الذي يشكّل الموقف التركي حالياً هو القلق من حالة الفوضى المحتملة في بلد جار وكبير كإيران، وانعكاسات ذلك على الداخل التركي، لا سيما أن أنقرة شهدت موجة احتجاجات شبيهة في مايو/أيار 2013، ولم تتخلص بعدُ نهائياً من تداعيات المحاولة الانقلابية الفاشلة في صيف 2016، وما زالت حالة الطوارئ سارية حتى الآن في ظل استمرار مكافحة التنظيم الموازي (جماعة غولن) في مؤسسات الدولة.

كما أن أنقرة تولي اهتماماً شديداً بمسار التعاون المتنامي باطّراد مع طهران، ذلك أن محاولات تركيا -حتى عام 2015- لتأسيس تحالف قوي مع السعودية لموازنة التمدد الإيراني في المنطقة لم تصل إلى نتيجة. بل انعكس الأمر بعد عدة تطورات بالمنطقة، أهمها أزمتا حصار قطر واستفتاء كردستان العراق والتطورات المتسارعة في سوريا.

وظهرت إشارات وقرائن كثيرة على تناقض المصالح والمساعي بين أنقرة والرياض، الأمر الذي عكس المشهد إلى تقارب تركي/إيراني في مقابل المحور الذي تقوده السعودية، وإن لم يكن ذلك معلناً في ظل الحرص التركي الواضح على عدم استعداء الرياض، وإبقاء خيوط العلاقة معها غير مشدودة.

ثم هنالك مخاطر الملف الكردي في المنطقة على تركيا تحديداً في حال تدهورت الأحداث إلى فوضى، وضعفت قدرات الحكومة الإيرانية على ضبط الحدود والأطراف، وهو ما يلامس الحدود الحمر للأمن القومي التركي. وهنالك بالتأكيد الموقف الإيراني المتقدم ليلة الانقلاب في تركيا والذي تحفظه الأخيرة لها، إضافة إلى سردية الاستهداف التركية.

سردية الاستهداف
تعاني أنقرة مؤخراً من علاقات متوترة مع حلفائها التقليديين في المحور الغربي، أي الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). ولذلك فهي تربط كثيراً بين أزماتها مع هذه الدول ومختلف التطورات المحلية والإقليمية، وليس الاحتجاجات في إيران استثناء لهذه القاعدة.

يتبدى في الخطاب التركي الرسمي بوضوح الرفض التام والقاطع لأي تدخل خارجي في الأزمة الإيرانية، ودعوة المجتمع الدولي إلى "البعد عن ازدواجية المعايير" في التعامل مع النظام الإيراني، كما جاء على لسان وزير الخارجية التركي الذي ذكّربالموقف الدولي من الانقلاب في مصر، وقارنه بالحكومة المنتخبة في طهران والتي " يجب ألا تسقط إلا بالانتخابات" إذا ما أراد الشعب الإيراني ذلك.

كما أن تقييم الوزير للأحداث ألمح إلى احتمالية التدخل الخارجي، أو على الأقل محاولات توجيه دفة الأحداث من أطراف خارجية، لكنه تجنب الجزم بالأمر دون توفر أدلة دامغة على ذلك.

ومن مؤشرات التوجس التركي من دور العامل الخارجي في الاحتجاجات؛ حديث وزير الخارجية المباشر عن اقتصار الدعم العلني والمباشر للاحتجاجات على الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو، وهما زعيما الدولتين اللتيْن تشهد العلاقات معهما توتراً شديداً في الأسابيع الأخيرة بعد قرار ترمب بخصوص القدس.

تبدو سردية الاستهداف أكثر وضوحاً في وسائل الإعلام المقربة من حزب العدالة والتنمية والحكومة، والتي تواتَرَ فيها تشبيه التطورات الحالية في إيران بأحداث "جيزي بارك" في تركيا عام 2013، والتي بدأت على شكل احتجاجات محدودة على قطع بضع أشجار في ميدان "تقسيم" الشهير في إسطنبول، ثم تحولت إلى مظاهرات واسعة تخللها الكثير من الفوضى والعنف، واتهمت أنقرة حينها بعض الدول بدعمها والتدخل لإدامتها وتأجيجها.

"الحديث لروحاني، لكن المقصود هو أردوغان"؛ هكذا عنونت وسائل إعلام تركية بعض أخبارها ورسوم الكاريكاتور فيها وفق صياغة المثل التركي، كما ربطت معظم تحليلاتها ومقالاتها ما يحدث في إيران بالتطورات المتسارعة في المنطقة والعالم، من حصار قطر إلى قضية القدس، ومن التنافس بين الولايات المتحدة والصين إلى الانقلاب الفاشل في تركيا، ومن المشهد السعودي الداخلي إلى مسار الأزمة السورية.

في المحصلة، تبدو تركيا متوجسة من المظاهرات التي بدأت عفوية ولأهداف اقتصادية، ثم تحولت إلى احتجاجات بشعارات سياسية استهدفت بعض الحكومة و/أو النظام، ويبدو أنها تراهن على قدرة حكومة طهران على التعامل معها بحكمة وهدوء يحتويان الاحتجاجات، ويحولان دون "تحويل إيران إلى سوريا جديدة".

فاستقرار تركيا من استقرار إيران، ولا تحتمل أنقرة أن تواجه حالة متفاقمة من عدم الاستقرار في دولة كبيرة وجارة مثل إيران، قد تكون لها ارتداداتها في الإقليم كما في الداخل التركي، الذي يستعد لتطبيق النظام الرئاسي مع حلول الانتخابات البرلمانية والرئاسية المتزامنة نهاية 2019.

هكذا تبدو أنقرة -وفق بعض التحليلات- وقد استخلصت العبر والعظات من السنوات السبع الأخيرة خصوصاً في سوريا، الأمر الذي يضعها إلى جانب الاستقرار رغم تأييدها المبدئي لحق التظاهر السلمي، ويجعل أذنها منصتة تماماً لوقع الأحداث والتطورات في إيران بينما تظل عينها على الداخل التركي.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس