ترك برس

قالت صحيفة "العربي الجديد" إن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لا يزال هدفاً استراتيجياً لتركيا، التي ترفض إنهاء مفاوضات حصولها على العضوية الكاملة في الاتحاد مقابل شراكة مع أوروبا، وهو العرض الذي كرره الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال لقائه بنظيره التركي، رجب طيب أردوغان، في العاصمة الفرنسية باريس يوم الجمعة الماضي.

ولا يبدو أن لهذا العرض نصيباً في التنفيذ، على الأقل على المدى المنظور، لأسباب عديدة، على رأسها عدم استعداد أي من الطرفين، حتى الآن، لتحمّل المسؤولية التاريخية لإنهاء مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد، حسب ما أوردت الصحيفة في تقرير لها حول العلاقات التركية الأوروبية.

وخلال المؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيسين، قال ماكرون: "يجب أن ننظر في ما إذا بالإمكان إعادة التفكير في هذه العلاقة، ليس في إطار عملية انضمام بل ربما في إطار تعاون وشراكة، مع هدف الحفاظ على ارتباط تركيا والشعب التركي بأوروبا، والعمل على جعل مستقبله مبنياً على التطلع إلى أوروبا ومع أوروبا".

على الرغم من ذلك، لا يبدو أن تركيا والاتحاد الأوروبي قادران حتى الآن على وضع حد لسياق العلاقة التاريخية بينهما، والتي قامت على منح تركيا الأمل بإمكانية الانضمام إلى الاتحاد من دون منحها العضوية، ولا يستطيعان لأسباب جيوسياسية واقتصادية تحمّل المسؤولية التاريخية لإنهاء مفاوضات انضمام تركيا.

وبحسب التقرير، تبدو الإدارة التركية غير قادرة على حسم قرارها وإنهاء حلم الانضمام إلى التكتل الاقتصادي القوي، أي الاتحاد الأوروبي، والقيام بدور محوري فيه بحكم حجم قوتها الاقتصادية والعسكرية في مواجهة محاولات تغوّل الروس.

كما أن الاتحاد الأوروبي لا يبدو راغباً بالتخلي عن تركيا أحد أهم اللاعبين في الشرق الأوسط وشرق أوروبا وكذلك أهم الشركاء الاقتصاديين، بما يعنيه ذلك من تحمّل إمكانية تطوير أنقرة سياسات عدائية بالتعاون مع موسكو، في الوقت الذي يبدو فيه الاتحاد في وضع هش للغاية بعد خروج بريطانيا والخلافات الداخلية وعدم التزام دول أوروبا الشرقية بمعاييره، وصولاً إلى قيام بعضها باستخدام الورقة الروسية للضغط على الاتحاد.

وبدا الأمر واضحاً من خلال تصريحات ماكرون، الذي يحاول موازنة السياسة الأوروبية تجاه أنقرة في وجه الشراسة النمساوية والألمانية، إذ قال: "أرغب في أن نفعل المزيد معاً، وأن تبقى تركيا راسخة في أوروبا، لكنني أعتقد أن عملية الانضمام كما تم البدء بها لن تؤدي إلى نتائج في السنوات المقبلة"، مشدداً على "ضرورة أن نخرج من نفاق يتضمن الاعتقاد بأن تقدماً طبيعياً لفتح فصول جديدة (في المفاوضات) هو أمر ممكن".

أما الإدارة التركية، وعلى الرغم من استمرارها في اعتبار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هدفاً استراتيجياً، إلا أنها بدأت خلال السنوات الأخيرة بتبنّي موقف يرى أن أنقرة لن تدخل الاتحاد ولكنها لن تتخذ القرار بإنهاء المفاوضات، خصوصاً بعد التردد الأوروبي في دعم أنقرة ضد المحاولة الانقلابية والتلكؤ في دعمها بملف استضافة اللاجئين السوريين، وصولاً إلى التحرك بشكل علني ضد الاستفتاء على التحوّل إلى النظام الرئاسي.

هذا الموقف عبّر عنه أردوغان مراراً، وأعاده خلال المؤتمر الصحافي مع ماكرون، إذ أكد أن تركيا "تعبت" من انتظار انضمام محتمل للاتحاد الأوروبي، مضيفاً: "لا يمكن أن نستجدي بشكل دائم الدخول للاتحاد الأوروبي... تركيا تنتظر منذ 54 عاماً ولا يمكننا أن نتوسل بشكل دائم الانضمام إلى الاتحاد"، مشيراً في المقابل إلى أن 16 فصلاً للتفاوض ما تزال "مفتوحة ولم تُغلق مطلقاً" من أصل 35 في المجموع.

وفي هذا السياق، بدأت أنقرة بإعادة رسم دورها وموقعها الجيوستراتيجي، من "دولة غربية" كما أرادها مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، إلى دولة أوروآسيوية، تمتلك علاقات قوية ومصالح مع كل من روسيا والصين وكوريا الجنوبية والدول التركية في وسط آسيا، وكذلك دولة إسلامية تحاول توسيع نفوذها في الشرق الأوسط وأفريقيا، بينما ما زال السوق الأوروبي السوق الرئيسي لتصدير المنتجات التركية.

وقام حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا على فكرة التمرد على حركة "ميلي غروش" بقيادة رئيس الوزراء السابق، نجم الدين أربكان، والتي كانت ترى استحالة انضمام تركيا للنادي المسيحي، كما كان يطلق عليه أربكان، بل تحوّلت العضوية في الاتحاد الأوروبي إلى إحدى أهم الأدوات التي استخدمها أردوغان لمواجهة الكماليين في العسكر والدولة العميقة.

وبالتالي فإن التراجع عن هذا الهدف سيؤدي بشكل أو بآخر إلى مواجهة داخلية في حزب "العدالة والتنمية" الحاكم ذاته، وبين الحكومة والمعارضة، وكذلك في جهاز الدولة والجيش بين المتمسكين بتركيا جزءاً من أوروبا والرافضين له. لذلك يبدو أن أنقرة تود من أوروبا اتخاذ القرار في هذا الشأن، كما أن تخلي تركيا عن رغبة الانضمام بشكل مجاني سيضعف من موقفها في المفاوضات على شراكة مميزة مع الاتحاد.

وتبدو الاستراتيجية التركية الحالية، كأنها قائمة على إهمال ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، مقابل تعزيز العلاقات مع دوله، وبالذات ألمانيا، للحصول على مزيد من المكاسب الاقتصادية، سواء في ما يخص توسيع الاتحاد الجمركي أو رفع حظر تصدير السلاح الألماني إلى تركيا، والذي لا يعتمد عليه الجيش التركي فقط لصيانة عدد كبير من الأسلحة الألمانية التي يستخدمها، ولكن أيضاً في الصناعات الدفاعية، بينما تبذل تركيا جهوداً حثيثة لحل معضلة عدم قدرتها على تصنيع محركات طائرات وآليات ثقيلة، ولجأت إلى بريطانيا وكوريا وأوكرانيا في هذا الشأن.

وبدا ذلك جلياً خلال اللقاء الذي جمع وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، بنظيره الألماني، زيغمار غابريال، في مدينة غوسلار شمالي ألمانيا، وسط تسريبات الإعلام الألماني، التي تحدثت عن صفقة بين برلين وأنقرة، تخلي بموجبها السلطات التركية سبيل الصحافي الألماني، دينيز يوجيل، مقابل رفع حظر السلاح، الأمر الذي لم ينفه غابريال، قائلاً لمجلة "دير شبيغل" الألمانية: "إذا كان الحل لإطلاق يوجيل هو توريد الأسلحة مرة أخرى إلى تركيا، فإنّ إطلاقه أولوية".

من جهته، أكد جاووش أوغلو أن الأولوية التركية في العلاقات مع برلين هي لتوسيع التعاون الاقتصادي والتغاضي عن خلافات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، قائلاً: "نختلف مع برلين بخصوص عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، ولكن يمكننا تحسين العلاقات الاقتصادية. لسنا ملزمين بأن نتوافق في كافة القضايا، ولكن نضعها بين قوسين ونمضي قدماً".

وأضاف: "علينا أن نبدأ مرة أخرى اللقاءات حول اتفاق الاتحاد الجمركي المفيد للبلدين، ولدينا توافقات حول سورية والعراق واليمن وليبيا، والبلدان يريدان استقرار تلك المنطقة، ونستمر في مكافحة الإرهاب، ويمكنني القول إننا على تعاون وثيق مع ألمانيا في قضية اللاجئين".

وبحسب "العربي الجديد"، يُلخّص مسؤول تركي مطلع، أسباب رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد بالنسبة للدول الأوروبية، بأن "الاتحاد الأوروبي كبنية سياسية قام على أساس السردية التاريخية الأوروبية التقليدية، التي ترى في التاريخ الأوروبي سلسلة من النجاحات التي تعود إلى العصر اليوناني والروماني وصولاً إلى النهضة ومن ثم عصر الأنوار وصولاً للحداثة، وتنفي هذه السردية أي دور للمسلمين في نهضة أوروبا، وتقوم في جزء أساسي منها على مسيحية أوروبا في مواجهة المسلمين العثمانيين".

ويُضيف المسؤول: "إدخال تركيا في الاتحاد سيعني إعادة رسم صورة أوروبا ذاتها التي سينضم لها حوالي ثمانين مليون مسلم تركي سيشكلون قوة كبيرة في الاتحاد بالتعاون مع العديد من دول البلقان"، معتبراً بالتالي أن "السبب الرئيسي لعدم ضم تركيا للاتحاد هو أنها دولة مسلمة، وفيما يتحدث الأوروبيون عن حكم القانون أو الديمقراطية، إلا أن هذا كله كان خارج السياق، وما زال، في التوسعات التي تمت للعديد من دول أوروبا الشرقية، والتي على عكس تركيا هي دول تعتمد على المعونات الأوروبية وفيها تيارات تقترب من النازية، كما في بولندا أو النمسا أو سلوفاكيا أو تشيكيا وغيرها".

ويرى مراقبون أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي شكّل صفعة كبيرة أخرى لدعاة تجاوز التاريخ القديم من الأوروبيين، وأثبت صحة رفض فرنسا في عهد شارل ديغول ضم بريطانيا للاتحاد، الأمر الذي يمكن تكراره مع تركيا، وريثة العثمانيين، الذين وعلى الرغم من أنهم كانوا قوة عسكرية وسياسية أوروبية بشكل أساسي، لكنهم كانوا دوماً خارج الإنتاج الأوروبي على المستوى الثقافي والحضاري، وإن كانوا من أكبر المتأثرين به.

وتختلف مواقف دول الاتحاد الأوروبي من انضمام تركيا إليه، بل تقوم معظم هذه المواقف على أسس تاريخية وأيديولوجية بحتة. بالنسبة لليونان وقبرص، فالعداء للأتراك يُعتبر جزءاً حيوياً ورئيسياً في الهوية اليونانية التي بقيت تحت الاحتلال العثماني ما يقارب 400 عام بعد أن دمر العثمانيون الإمبراطورية البيزنطية.

وعلى الرغم من اتخاذ اليونان، في السنوات السابقة، موقفاً مؤيداً لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، إلا أنه يعتبر موقفاً مجاملاً ومبنياً على معرفة عميقة باستحالة تحقيق ذلك، وأحياناً لمناكفة ألمانيا أيضاً، في الوقت الذي تتكفل فيه قبرص اليونانية بمنع فتح أي ملف آخر في ما يخص انضمام تركيا للاتحاد.

وبالنسبة للألمان والهولنديين، والنمساويين خصوصاً، فإن معارضة فيينا تقوم بالأساس على محاولات الأتراك استعادة نفوذهم في البلقان، ليس على مستوى المسلمين فحسب من الألبان والبوسنيين والأقلية التركية، ولكن الأرثوذكس من الصرب والبلغار وصولاً إلى علاقات تركية قوية مع الكاثوليك الكروات، الأمر الذي دق ناقوس الخطر بالنسبة لليمين النمساوي الذي لا يزال يرى حصار العثمانيين المتكرر لفيينا (في 1529 و1683) واحداً من أهم المفاصل في التاريخ النمساوي التي لا يجب تجاوزها.

أما التوجس الألماني من إدخال تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فيبدو أحياناً غير مبرر، بحكم علاقات التحالف الطويلة بين البلدين، والتي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر وتحوّلت إلى تحالف في الحرب العالمية الأولى، وكذلك في حلف شمال الأطلسي. وليس واضحاً إن كان هذا التوجس يعود إلى الارتباك الذي سيشكله إدخال قوة كبيرة للغاية كأنقرة ستصبح منافسة لبرلين على نفوذها في الاتحاد الأوروبي، أو أنه يعود لأسباب أخرى.

ولكن في كل الأحوال، يبدو أن للتقارب الألماني التركي الأخير، أسباباً كثيرة، يأتي على رأسها التساؤلات الكبيرة المطروحة حول مستقبل الشرق الأوسط، سواء لناحية الحرب السورية أو الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أو دور إيران في ظل التصعيد الأميركي الأخير، وصولاً للانزعاج الألماني من الأداء الإماراتي السعودي، أو حتى التعاون الاستخباراتي حول قضية مقاتلي "داعش" العائدين لأوروبا، وموازنة محاولات التمدد الروسي. كل هذه الأمور تُعتبر ذات أهمية جوهرية لأمن الاتحاد الأوروبي وحمايته من موجات اللجوء، ولتركيا دور محوري فيها.

مقابل ذلك، يبدو الموقف الإيطالي والإسباني غير رافض لانضمام تركيا إلى التكتل الأوروبي، بل يرى ذلك معادلاً لتزايد النفوذ الألماني فيه. أما فرنسا فتقوم بدور المحاور لتركيا الذي يرغب في الحفاظ عليها في المجال الأوروبي لمواجهة روسيا، في الوقت الذي تعمد فيه الولايات المتحدة للانسحاب التدريجي من التزامها بالدفاع عن أوروبا، الأمر الذي بدا واضحاً من خلال التوقيع على اتفاقية مع شركة "يوروسام" الإيطالية الفرنسية لإنتاج منظومة دفاع صاروخي يمكن دمجها في حلف شمال الأطلسي، بعد توجّه أنقرة لشراء منظومات إس 400 الصاروخية الدفاعية الروسية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!