ترك برس

انتشر اليهود في جميع أنحاء العالم بعد أن أحرق الرومان القدس في 70 بعد الميلاد، كان عليهم تحمّل العذاب في كل مكان ذهبوا إليه. ومنذ تلك الأيام، كانوا ينتظرون منقذًا يجمعهم في ظل دولة واحدة. ومع تأخر المنقذ الذي طال انتظاره، حشد بعض اليهود لإيجاد دولة إسرائيلية. وفي عام 1897 سمّت المجموعة التي اجتمعت في بازل بسويسرا من اليهود نفسها بـ"الصهاينة" نسبة لجبل صهيون في القدس، بهدف انتزاع أرض لم تكن لهم.

الأرض الموعودة

قام الصهاينة بطلب المساعدة من الإمبراطورية البريطانية، التي كانت تمثل القوة العظمى في ذلك الوقت، إلا أن مطالبهم لم تؤخذ على محمل الجد. بعد فترةٍ من الوقت، أدركت بريطانيا أن الحركة اليهودية كانت تكتسبُ قوةً فقدمت لهم بعض الأراضي، مثل أوغندا وسيبيريا وقبرص. رفض اليهود ذلك، فقد أرادوا فلسطين ووضعوها نصب أعينهم. فلسطين التي تُعد موطنًا لمئات الآلاف من العرب، يقول اليهودُ إنهم وُعدوا بها وإنها مذكورةٌ في التوراة.

أخذت الحكومةُ العثمانية احتياطاتٍ تمنع نجاح الخطة اليهودية التي تهدد سلامتها الإقليمية. ففي سنة 1871، وقبل أن يتخذ اليهودُ إجراءاتهم الرسمية والعلنية، أعلن العثمانيون 80 بالمئة من أراضي فلسطين ممتلكاتٍ للدولة. وعقب خلافة السلطان عبد الحميد الثاني، قام بزيادة الإجراءات الوقائية ضد المستوطنات اليهودية في فلسطين. وفي عام 1883، فرض قيودًا على حيازة الأراضي الفلسطينية وقرر أن يأخذ الإقليم الاستراتيجي بنفسه.

في عام 1900، قام السلطان عبد الحميد الثاني بتقليص مدة إقامة اليهود في الأراضي الفلسطينية إلى 30 يومًا، كما حظر على اليهود حيازة الأراضي الواقعة ضمن حدود الدولة العثمانية بما فيها فلسطين، وأعلن أن الدولة العثمانية ليست منطقة استيطانٍ للأشخاص المنفيين من أوروبا.

لا غرف للمفاوضات.. لا مجال للموافقة

قام ثيودور هرتزل، زعيم الحركة الصهيونية في بودابست، بتقديم طلبٍ للقاء السلطان عبد الحميد الثاني، وحين تم رفض هذا الطلب، قدّم عرضه للسلطان من خلال صديقه المقرب، البولندي فيليب نيولينسكي، الذي التقى بعبد الحميد في شهر أيار/ مايو سنة 1901. نقل فيليب عرض الصهاينة لعبد الحميد، والذي نصَّ على دفع كافة الديون المترتبة على الدولة العثمانية لأوروبا، ونشر دعاية للسلطان العثماني في جميع أنحاء أوروبا، مقابل فتح الأراضي الفلسطينية للاستيطان اليهودي وتسليم الشعب اليهودي حكم فلسطين.

رفض السلطان هذا العرض وقال مقولته الشهيرة: "لن أبيع أي شيء، ولا حتى شبرًا واحدًا من هذه الأرض فهذا البلد لا ينتمي لي بل لجميع العثمانيين (أي سكان الإمبراطورية العثمانية). لقد كسب شعبي هذه الأراضي بدمائه". كرّر هرتزل عرضه في العام الذي يليه، إلا أن الجواب كان ذاته.

من المهم التأكيد على أن السلطان عبد الحميد الثاني لم يكن معاديًا للسامية، بل إن هذا المصطلح ليس له مكانٌ لا في الثقافة الإسلامية ولا في التركية. كان عبد الحميد معروفًا بنهجه الواقعي وليس العاطفي في حل المشاكل، وجميع الاحتياطات التي تم اتخاذُها في تلك الفترة كانت متعلقةً بسلامة الدولة ولم تكن تستهدف تحقيق مصلحةٍ لمجتمعٍ معينٍ أو إلحاق الضرر بمجتمعٍ آخر.

ومن الجدير بالذكر، أن "ثيسالونيكي" ("سالونيك" شرق اليونان حاليًا)، التي كانت جزءًا من الدولة العثمانية آنذاك، كانت تعد أكبر مدينة يهودية في العالم. لقد كانت الإمبراطورية العثمانية موطنًا لأكبر عددٍ من السكان اليهود في العالم، الذين عاشوا بحريةٍ فيها.

الخطوة الثانية

قامت جمعية الأتراك الشباب (تركيا الفتاة) التي خلعت السلطان عبد الحميد الثاني عن الحكم سنة 1909 بنفيه إلى مدينة سالونيك، حيث تم سجنُه في بيت مصرفيٍّ يهوديٍّ يُدعى ألاتيني. وقامت الجمعية حينها بتأميم جميع الأراضي التي يملكها السلطان، بالإضافة للسماح لليهود بالاستيطان في فلسطين. وبينما كانت الجمعية تسيءُ لجميع الشعوب العثمانية من خلال السياسات التتريكية التي اتبعتها، قامت بتقديم الكثير من الخدمات القيّمة لليهود، وردت لهم الجميل بعد أن ساعدوها في الاستيلاء على السلطة.

كان هناك العديدُ من اليهود والماسونيين بين أعضاء الجمعية، وكان المصرفيُّ اليهودي والماسوني إيمانويل كاراسو أحدهم. عمل إيمانويل نائبًا لسالونيك، وكان صديقًا للوزير الكبير طلعت باشا، كما أنه كان عضوًا في الوفد الذي أعلن خلع السلطان عبد الحميد الثاني عن الحكم.

يُعد إيمانويل أقوى شخصٍ في عصره، كما أنه المنظم المسؤول عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين. ومن خلال مساعدته في مضاعفة ثروته والسماح له بالسيطرة على سوق الغذاء الأسود في فترة الحرب العظمى، قامت تركيا الفتاة بدفع ديونها لإيمانويل.

سنة 1917، عقدت الجمعيةُ اتفاقًا مع وزير الخارجية البريطاني آنذاك، آرثر بلفور. ليتم بذلك إعلانُ بلفور، والذي أعطت الإمبراطورية البريطانية بموجبه الضوء الأخضر لتأسيس دولةٍ يهوديةٍ على الأراضي الفلسطينية. وبعد أن تمت هزيمةُ الجيش العثماني تحت قيادة مصطفى كمال في سوريا، قامت بريطانيا باحتلال فلسطين سنة 1918.

على الرغم من المبدأ العام الذي يقول بأن قوات الاحتلال لا يُسمح لها باتخاذ إجراءاتٍ ضد الممتلكات الخاصة، إلا أن مالك الأرض هو من يضعُ القوانين. بالتالي، أصبحت الأراضي الفلسطينية التي استولت عليها تركيا الفتاة بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني، ملكًا للإمبراطورية البريطانية.

بعد الاحتلال البريطاني، ازدادت المستوطنات اليهودية في فلسطين، وأصبح اليهودُ قادرين على شراء الأراضي فيها. واضطرَّ العربُ في ذلك الوقت إلى بيع أراضيهم بسبب تعرضهم للضغوط الاقتصادية وللحرمان على كافة المستويات.

أوقاتٌ صعبة

في رسالةٍ بُعثت من السلطان عبد الحميد الثاني، إلى الشيخ الشاذلي محمود أبي الشامات، بتاريخ 22 أيلول/ سبتمبر سنة 1913، كتب السلطان:

"إنني أستقيلُ من كوني خليفة بسبب الضغط والتهديد الذي تعرضت إليه من قبل جمعية الشباب الأتراك. أصرّت عليّ هذه المجموعة لكي أقبل بتأسيس ولايةٍ يهودية في فلسطين، وأنا رفضتُ ذلك. قاموا أخيرًا بعرض 150 مليون قطعة بريطانية ذهبية عليّ، فرفضتُ كذلك وقلتُ لهم: ((إنني لن أتفق معكم ليس إن قدمتم لي 150 مليون ذهبية بريطانية ولكن إن قدمتم لي ذهب العالم كله. لقد خدمتُ المجتمع الإسلامي لأكثر من ثلاثين عامًا، لم أقم بخذلان أجدادي ولا بتلطيخ تاريخهم)).

وبسبب ردي الأخير، اتفقوا معًا على خلعي وإرسالي إلى سالونيك. إنني أدعو الله، أنا لم أوافق على إنشاء ولايةٍ جديدةٍ على الأراضي الفلسطينية على الأرض العثمانية والمجتمع الإسلامي".

وبحلول عام 1947، زادت نسبة اليهود من سكان فلسطين، وزادت مساحة الأراضي التي سيطروا عليها. وكانت الخطوة التالية هي الاستقلال المرعيّ غربيًا.

أجبرت بعضُ العصابات اليهودية البريطانيين على إخلاء المنطقة. وصدر قرارٌ عن الاستفتاء في إقامة دولةٍ يهودية، لتؤكده الأمم المتحدة سنة 1948، وتكون حكومة أنقرة من بين أوائل الموافقين على القرار.

سُميت الدولةُ الجديدةُ باسم إسرائيل، على اسم النبي يعقوب. وعلى العلم الإسرائيلي، توجد نجمةُ داوود التي تقع بين خطين أزرقين، يرمزان إلى نهري النيل والفرات، ويرى البعض أنهما يرمزان إلى البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن. هاجرت أعدادٌ كبيرةٌ من العرب ليعيشوا تحت ظروفٍ قاسيةٍ وصعبة في دول اللجوء، بعد أن تم الاستيلاء على أراضيهم من قبل اليهود.

هُزمت الجيوش العربية المتحالفة ضد إسرائيل في كلٍّ من 1948، و1967، و1973. وأخيرًا، حظي السلطان عبد الحميد بالثناء مرةً أخرى، وظلَّ حتى اليوم شخصيةً محبوبةً في الدول العربية التي تذكر اسمه في صلاة الجمعة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!