مجاهد ديرانية - نداء سوريا 

تقييم العملية من الناحية العسكرية

قد لا أجازف لو قلت إن "غصن الزيتون" هي أفضل عملية عسكرية تشهدها سوريا حتى الآن من حيث الاحترافية والإتقان، وقد أطلقتُ هذا الحكم اعتماداً على ثلاثة معايير.

الأول: طريقة التقدم والانتشار، فقد تقدمت القوات المهاجمة من الأطراف، من المناطق الجبلية التي تحيط بسهول عفرين، ففتحت ثغرات في الطوق الدفاعي، ثم بدأت بوصل الثغرات المحررة معاً في خطوات بطيئة مدروسة حتى شكّل (أو اقتربت من تشكيل) طوق كامل ما يزال يتوسع عمقه يوماً بعد يوم. وهي ما تزال في المناطق الجبلية (باستثناء محور جنديرس في الجنوب الغربي) لكن كل متر يستقبله المقاتلون أمامهم سيكون أسهل من كل متر يتركونه وراءهم، وصولاً إلى السهول التي تنبسط تحت أقدام الجبال وتضم مدن الإقليم الرئيسية وحاضرتَها، مدينة عفرين.

الثاني: أن العملية تمَّت بحذر بالغ، فاقتصرت على الاشتباك المباشر مع المليشيات المسلحة دون تعريض المدنيين للخطر. يمكننا أن نقارن هذه "الحرب النظيفة" بحروب "الأرض المحروقة" القذرة التي اتبعتها القوى العظيمة (التي تملك أسلحة ذكية بزعمها) فأحرقت الأرض وأهلكت البشر، كما صنعت أمريكا وحلفاؤها في الموصل والرقة وكما صنعت روسيا في إدلب وحلب.

الثالث: أن المعركة العسكرية على الأرض سبقتها معركة سياسية خاضتها الأجهزة الدبلوماسية التركية في الأروقة الدولية بكفاءة واقتدار، واستمرت لعدة أشهر قبل أن تنطلق القوات العسكرية لتنفيذ المهمة على الأرض. هذه المعركة الهادئة الصَّبورة وفرت غطاء دولياً للعملية العسكرية، وحالت دون وقوع مشاغبات من شأنها مضاعفة الخسائر البشرية والمادية وتعطيل العملية أو تشتيتها (باستثناء ما صدر عن إيران، الخاسر الأكبر في التطورات الأخيرة في سوريا).

تقييم العملية من حيث أثرها على الثورة

تفاوت استقبال جمهور الثورة لهذه العملية بين الترحيب والاستهجان، فالذين رحبوا بها نظروا إلى إيجابياتها فغلّبوها على السلبيات، والذين استهجنوها نظروا إلى سلبياتها فغلّبوها على الإيجابيات، وبين هذين الفريقين فريق ثالث بنى موقفَه على الهوى لا على قياس المنافع والأضرار، فبعضُ الذين يحبون تركيا وحكومتها ورئيسها رحبوا بالعملية بلا تردد، وبعض الذين يبغضونها ويبغضون حكومتها ورئيسها رفضوا العملية بإطلاق.

أنا من الفريق الأول، ولو ترجّح الضرر لصرت من الثاني، أما الفريق الثالث فلا يمكن أن أكون منه، لأن الاختيارات المصيرية لا تُبنَى على العواطف والمشاعر وإنما على المصالح والمفاسد، وليس على ما يظهر من تلك المصالح والمفاسد في المدى القريب، وإنما ما يظهر منها على المدى الإستراتيجي الطويل، وهذا هو الميزان.

لا ريب أن السيطرة التركية في عفرين (كما في مناطق درع الفرات أيضاً) من شأنها أن تصادر القرار الوطني (ولو جزئياً) وأن تجعل اليد العليا لصانع القرار التركي، وهذه ضريبة لا بد منها عندما تكون القوة التركية هي المرجِّحة في الصراع مع الأعداء، لكن هذا الغُرم هيِّنٌ يَسيرٌ مقارَنةً بالخطر الكبير الذي صرفه التدخل التركي، خطر انفصال الإقليم واستقلاله عن جسم الدولة السورية، لأن ذلك الانفصال -لو تَمَّ- سيكون انفصالاً أبدياً على المدى المنظور، والسيطرة التركية على الإقليم مؤقتة ولا بد أن تنحسر بعد استقرار سوريا واستقلالها الجديد من الاحتلال الأسدي الطائفي بإذن الله.

هذا على المدى البعيد، أما في المدى القريب فإن تحرير عفرين سيصل مناطق الثورة في الريف الشمالي بالمناطق المحررة في إدلب والشمال، وسوف تنشأ -بالتالي- أرض واسعة ذات كثافة سكانية وقوة عسكرية تصلح قاعدةً صُلبةً للثورة، ويمكن أن تُبنَى عليها مكاسب سياسية وعسكرية، ولا سيما بعد اقتلاع المشروع الأسود من الشمال. بالإضافة إلى فائدة هائلة لا تقدَّر بثمن، وهي إنشاء مناطق آمنة يستوطن فيها اللاجئون العائدون من تركيا والنازحون الفارّون من جحيم الحرب في الداخل السوري، وهم ملايين.

تركيا والثورة

فتحَت عمليةُ "غصن الزيتون" ملفَّ العلاقة بين تركيا والثورة كما لم يُفتَح من قبل، وهو ملف مهم لا بد من بحثه بتجرد وصدق بعيداً عن العصبية والهوى.

ينبغي أن نقرر في هذا المقام (وفي أمثاله من مقامات ومناسبات) حقيقةً جوهرية، بل لعلّها أصلُ الحقائق في علاقتنا بالحلفاء والأصدقاء: إن للثورة طريقها ومسارها ولأصدقاء الثورة طرقاً ومسارات، وربما تقاطعت المسارات وتطابقت الطرق في بعض الأحيان، فمشينا معاً واستفدنا وأفدنا، وربما تباعدت الطرق في غيرها من الأحيان، فلا نلوم غيرَنا إذا مشى في طريق مصالحه، ولكنْ لا نقبل أن يَحْملنا أحدٌ على المشي في طريقه الذي لا يناسبنا ولا يحقق أهداف ثورتنا.

لوقت طويل تقاطعت مصالح الثورة في سوريا مع المصالح التركية، ولوقت طويل كان الجار التركي هو العمق الإستراتيجي لثورتنا والصديق الأصدق والحليف الأفضل على الإطلاق، وما يزال صديقاً صادقاً وحليفاً حقيقياً ومأوى كريماً لملايين السوريين المشردين، ولا ينسى المعروفَ ولا ينكر فضلَ الكريم إلا لئيم، غيرَ أن السياسة تتقلب بتقلب الأحوال، ومصالح الأمس لم تعد هي ذاتها مصالح اليوم، وقد تتغير وتنقلب مرة أخرى في الغد القريب، فما هو موقفنا من هذه المصالح في كل حال؟

لقد رأيت دائماً (وما زلت أرى) أن تركيا هي أصدق الأصدقاء وأقرب الحلفاء إلينا وأكثرهم إنسانيةً بالتعامل مع ثورتنا، ولكنّ هذا لا يعني أن أقبل كل ما يصدر عنها من مواقف وتصرفات بحق الثورة والسوريين. إن مصالح تركيا تبرر لصانع القرار التركي ما يقوم به من أفعال تخالف مصالحنا في بعض الأحيان، ولكنها قطعاً لا تبرر لنا أن ننساق مع تركيا فنقدّم مصالحها على مصالحنا، ومَن صنع ذلك فإنه لا يستحق احترامنا ولا يستحق احترام تركيا نفسها، لأن من يحترم نفسه وقضيته هو الذي يستحق الاحترام.

الخلاصة: إنّ علينا أن نشكر من قدم لنا معروفاً ونمتنّ له، ولكننا لا نبيعه ثورتنا وبلدنا. إننا نوافقه ما رافقَنا في طريقنا ونخالفه ما فارقَ الطريق، فيبقى لنا طريقُنا الواضح مهما اختلفت الطرق، ونستمر بالسعي إلى هدفنا الذي أعلنّاه من أول يوم مهما تكن أهداف الدول ومصالحها المتشابكة والمتغيرة.

هذا هو الموقف الذي ينبغي أن نقفه من تركيا ومن غيرها من الحلفاء والأصدقاء: تعاون على الخير المشترَك وتعامل كريم بأخوّة وكرامة وإنصاف.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس